متغيّرات الموقف الروسيّ من “إسرائيل” وانعكاسه على سورية…؟
العميد د. أمين محمد حطيط*
في الأيام الأولى للعملية العسكرية الخاصة التي بدأتها روسيا في أوكرانيا ومع مناشدة اليهودي زيلينسكي لـ «إسرائيل» التدخل ومساعدته للمواجهة للاحتفاظ بموقعه في رئاسة أوكرانيا وعمله كممثل للغرب الأوروبي الأميركي ضدّ روسيا، في تلك الأيام الأولى حرصت «إسرائيل» على التظاهر بأنها اتخذت موقفاً وسطاً بين روسيا وأوكرانيا لأنها لا تريد ان تضحّي بمصالحها مع روسيا، وبطبيعة الحال لا يمكنها ان تجازف في الوقوف ضدّ الغرب الى جانب روسيا، فكان التظاهر بالوسطية أو شبه الحياد بين الطرفين هو الحلّ الأفضل المتاح لـ «إسرائيل» للتملص من الإحراج، وسطية قادتها إلى عرض الوساطة واستضافة المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا إذا توافقتا على «تل أبيب» لتكون مكاناً لها.
بيد أنّ هذا الموقف «الإسرائيلي الوسطي المحايد» لم يدم طويلاً في ظلّ ما سجّل في مسار المواجهة وتطورات المواقف الدولية حيث انحازت «إسرائيل» كما هي الحقيقة لأميركا وصوّتت في الجمعية العمومية للأمم المتحدة ضدّ روسيا وكانت من الـ ٩٣ صوتاً التي طالبت بإخراج روسيا من مجلس حقوق الإنسان، ثم فتحت أبوابها للمعارضين الروس والمتموّلين من يهود وسواهم الذين أخرجوا الثروات الطائلة من روسيا إضراراً بالاقتصاد الروسي، يُضاف الى ذلك ما زوّدت به «إسرائيل» أوكرانيا من قدرات وخبرات وأسلحة بشكل ظنّت أنه سيبقى بعيداً عن العين الروسية، وفي المحصلة بات الكيان الصهيوني في موقع عدائيّ واضح ضدّ روسيا وضدّ عمليتها العسكرية الخاصة ومصطفاً كما هو في حقيقته مع المعسكر الغربي الذي تقوده أميركا.
لم تفاجئ المواقف «الإسرائيلية» مَن يعرف هوية «إسرائيل» وطبيعتها وعلاقاتها الدولية، ومع هذا شكلت هذه المواقف صدمة لروسيا التي كانت قد وصلت في معمعة المواجهة مع الغرب الى درجة احتساب أيّ موقف دولي حيالها مهما كانت درجة سلبيته والاستعداد للردّ بما هو مناسب، ولذلك فإنّ أوائل الموقف الروسية ضدّ «إسرائيل» متمثلة في ما صدر عن الخارجية الروسية من إدانة للأداء «الإسرائيلي» ضدّ الفلسطينيين في الأرض المحتلة، والتذكير بأنّ هذا الاحتلال يشكل «أطول احتلال في التاريخ»، موقف طرح علامات استفهام حول ما سيكون من مواقف روسية حيال الاعتداءات التي تستهدف سورية وهي الاعتداءات التي بدأت مع بدء الحرب الكونيّة على سورية في العام ٢٠١١ واستمرت مع تمركز القوات الروسية في الميدان السوري بناء لطلب من الحكومة السورية في مهمة مساعدة الجيش السوري لمواجهة العدوان الإرهابي على سورية.
لقد أثار السكوت الروسي عن الاعتداءات «الإسرائيلية» الكثير من الانتقادات في صفوف من يدعم سورية ويتمنى وصولها الى حدّ منع العدو «الإسرائيلي» من الاعتداء عليها، وكان الردّ دائماً انّ روسيا في سورية لمحاربة الإرهاب وليست لمواجهة «إسرائيل» وانّ المصلحة الروسية العليا تفرض إبقاء قدر عالٍ من العلاقة الإيجابية مع «إسرائيل» لاعتبارات مختلفة منها الروسي الداخليّ والمتعلق بفعالية اليهود في قطاعات الأعمال والمال والإعلام في روسيا، ومنها إقليميّ ودوليّ ويتعلق بقوة ودينامية «إسرائيل» في شبكة العلاقات الدولية وعدم مصلحة روسيا في معاداتها حتى لا تتسبّب بإحداث نوع من العرقلة أو إنتاج الصعوبات التي تعيق استعادة موقعها على الخريطة الاستراتيجية بعد أن كانت فقدتها إثر تفكك الاتحاد السوفياتي وفرضت أميركا عليها الجلوس في المقاعد الخلفيّة دولياً،
أما اليوم ومع خوض روسيا مواجهة عنيفة مع الغرب، فإنّ أشياء كثيرة تغيّرت، وباتت ملزمة بتوزيع العناوين التي اختارتها بدقة على كلّ الدولة التي لها علاقة أو تأثير ما على مسرح المواجهة وعناوين تتراوح بين العدو والصديق والحليف وبينها أيضاً عنوان «دولة غير صديقة» أو تعبير ملطّف يستعمل بدلاً من تعبير «الخصم» أو العدو، فروسيا تجنّبت في معرض تصنيف الدول حيالها تجنّبت ما وقع به الرئيس الأميركي من تصنيف ثنائي للدول، حيث قال إنّ «من ليس معنا فهو ضدنا» أيّ من لم يكن صديقاً وحليفاً لأميركا فهو عدوّ لها وتعامله على هذا الأساس، أما روسيا فقد وسّعت مروحة التصنيف وأدخلت عبارات جديدة غير مألوفة أو مستعملة سابقاً في العلاقات الدولية.
ومع هذا التحوّل ستكون «إسرائيل» بعد سلسلة التصرفات التي قامت بها ضدّ المصالح الروسية أقرب الى التصنيف بأنها «دولة غير صديقة»، وهو تصنيف سيستتبع من التصرفات ما يناسبه في أكثر من مجال. وهو تصنيف فهمت تركيا أبعاده حتى الآن والتزمت حدوداً تبعدها عنه الى حدّ ما. ومع هذا الاحتمال وتوقع تصنيف «إسرائيل» على أنها كيان غير صديق سيطرح السؤال حول ما قيل من تنسيق وتفاهمات والتزامات روسية حيال «إسرائيل» في الميدان السوريّ، حيث ستكون الأسئلة كبيرة وذات طبيعة عملانية من جهة واستراتيجية من جهة أخرى، وتبدأ بالسؤال عن موقف القوات الروسية حيال الاعتداءات «الإسرائيلية» على سورية او الموقف من مطالب «إسرائيل» حيال إيران وحزب الله وفصائل محور المقاومة الأخرى في سورية عامة وعلى جبهة الجولان خاصة.
إننا نرى أنّ المواقف من العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا فرضت خلطاً للأوراق الدولية ووضوحاً في هوية وطبيعة تلك المواقف وهي ستضع حداً للزئبقية فيها، وانّ الميدان السوري سيشهد بداية هذه المتغيّرات. وهنا لنا أن نتوقع سلوكاً روسياً متطوراً أولاً في مواجهة «إسرائيل» وتالياً في مواجهة تركيا وأخيراً في مواجهة الاحتلال الأميركي وأداته الانفصاليّة «قسد».
وعليه يكون لنا أن نتوقع زخماَ سورياَ بدعم روسي ومن محور المقاومة لمواجهة هذه الأضلاع الاحتلالية والعدوانية الثلاثة أميركا وتركيا و»إسرائيل»، ولا نستبعد أن يشهد الميدان السوري تكثيفاً لاستهداف الإرهابيين في البادية أو تفعيلاً لعمل المقاومة في مواجهة الاحتلال الأميركي أو بحثاً عن مخرج لتركيا يُخرجها من الأرض السورية من غير الاضطرار للمواجهة العسكرية التي ستكون مخصصة بشكل أساسي للإجهاز على ما تبقى من جماعات إرهابية في إدلب وصولاً الى الحدود مع تركيا.
فمسرح العمليات المتعدّدة في سورية الذي شهد نوعاً من الاسترخاء خلال السنتين الماضيتين على موعد كما يبدو مع تطورات مرتقبة ستسقط استراتيجية أميركا القائمة على قاعدة «إطالة أمد الصراع» ومنع سورية من «إطلاق عملية إعادة البناء» والحؤول دون استثمارها لانتصاراتها ولثرواتها الطبيعة. وإذا كانت دوائر الغرب بدأت تتآلف مع استعمال عبارة «الحرب السورية انتهت والأسد انتصر»، فإنّ المتبقي هو استكمال الانتصار والعودة الى الحياة الطبيعية الآمنة. وهذا ما يبدو انّ التطورات المحلية والإقليمية والدولية تتيحه بشكل أفضل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ