المقدّس وصراع في المنطقة الحرجة
سعادة مصطفى أرشيد _
في ثلاثينيات القرن الماضي زار فلسطين ولي العهد السعودي الأمير سعود بن عبد العزيز ـ الملك لاحقاً، وكان السبب المعلن للزيارة هو واجب الصلاة في المسجد الأقصى، وفي طريقه من يافا إلى القدس كان أهل القرى يصطفون على جانبي الطريق للترحيب به، أثناء مروره في عنبتا، ألقى شاعرها عبد الرحيم محمود قصيدة بين يدي الأمير قال فيها متسائلاً:
المسجد الأقصى أجئت تزوره
أم جئت من قبل الضياع تودّعه؟
في ثاني أيام حرب حزيران 1967 كانت القوات (الإسرائيلية) قد دخلت القدس، وتوجّه جنودها من فورهم إلى باحات المسجد الأقصى واستباحوا حرمته، ما بين راقص وشارب خمر، إلى مصل بشعائر تلمودية، وصدرت الأوامر العليا من وزير الدفاع برفع الأعلام على أسطح المسجد وعلى القبة الذهبية لمسجد الصخرة، كان ذلك قراراً رسمياً يشير إلى التغيّر الذي حصل على هوية المكان المقدّس الذي كان قبل ذلك بيوم ثالث المساجد التي تشدّ إليها الرحال في الإسلام بعد المسجد الحرام في مكة والحرم النبوي في المدينة، ليصبح جبل الهيكل اليهودي، انتشرت صور ما فعل الجنود “الإسرائيليون” بالتفصيل في الصحافة العالمية مما حدا بالسفير التركي في تل أبيب في اليوم الرابع أو الخامس ان يتقدم بنصيحة لوزير دفاع الجيش المنتصر موشي دايان بأن ينزل الأعلام من فوره، لأنّ ذلك برأي السفير من شانه إثارة مشاعر مئات الملايين المسلمين في العالم ويدعوهم للتحرك الأمر الذي قد يفسد الانتصار “الإسرائيلي، وقد اقتنع موشي ديان بالنصيحة وأمر بإنزال الأعلام.
بعد سنتين وفي 21 آب 1969 قام متطرف إسرائيلي ـ استرالي بإحراق المسجد الأقصى وأحدث الحريق أضراراً جمة في الحرم القدسي، ومنها إحراق منبره الخشبي الشهير الذي كان قد صنع قبل ثمانية قرون في حلب ويُعدّ آية من آيات الفن السوري، كان قد أمر بصنعه السلطان نور الدين زنكي لوضعه في الحرم القدسي عند تحريره من الصليبيين، وهو ما نفذه لاحقاً صلاح الدين الأيوبي عند تحرير القدس في 2 تشرين الأول عام 1187، وقد كتبت رئيسة وزراء “إسرائيل” في حينه غولدا مئير في مذكراتها: عقب إحراق المسجد الأقصى لم أنم في تلك الليلة، وأخذت أصبّ اللعنات على مَن أحرقه، لاعتقادي أنّ “إسرائيل” ستسحق بسبب فعلته على يد مليار مسلم وعربي، ولكن ما أن جاء الصباح وإذا بي أدرك أنّ أعداءنا في سبات عميق. هذا الإدراك لدى غولدا مئير وقادة “إسرائيل” ساعدهم لاحقاً في اتخاذ قرارات وممارسة سياسات عدوانية لا تلقي بالاً لوجود عالم عربي أو إسلامي لم يحركه حريق ذلك المكان المقدس.
هذا الوضع البائس الذي عاشته القدس بعد هزيمة 1967 وبعد ثمانية قرون من تحريرها من الاحتلال الإفرنجي بقيت خلالها تشدّ إليها الرحال لكلّ طالب مغفرة وشفاعة، وكان كلّ طالب سلطة من ملك أو وزير أو أمير، يوليها عطفه واهتمامه برعاية كنائسها وترميم مساجدها باعتبار رعايتها والولاية عليها مصدراً من مصادر الشرعية .
لم تستعد القدس مكانتها السابقة إلا في رمضان الماضي وما أحدثته المعارك الدائرة فيها وعليها، في باب العمود وسلوان والشيخ جراح والحرم القدسي وكلّ فلسطين، وما أحدثته مفاعيل “سيف القدس”، على المستوى الداخلي إذ وحدت الشعب الفلسطيني من أعالي الجليل إلى أعماق النقب وما بينهما، وكذلك على مستوى العالمين العربي والإسلامي .
عقب تشكيل الحكومة “الإسرائيلية” الحالية، وفي محاولة منها لإرضاء جمهورها، زادت من شدة الحصار الشديد أصلاً على غزة، التي لم ترحمها الشقيقة الكبرى ـ مصر، وذلك في محاولة من طرفي الحصار لنزع سلاح وإرادة غزة المقاومة في آن واحد، فيما شهدت الضفة الغربية هجمة استيطانية مكثفة في سائر أنحائها، ولكن أضيفَت إليها جرعات عالية في القدس، كمحاولة تغيير معالم باب العمود وطرد أهالي الشيخ جراح من بيوتهم لصالح إسكان مستوطنين يهود، وكذلك في سلوان والقدس القديمة واعتداء المستوطنين ترافقهم الشرطة وبرلمانيون وشخصيات رسمية على المسجد الأقصى. فالائتلاف الحاكم يريد أن يثبت لناخبيه مقدار عدوانيته التي سوف تطيل من عمر حكومته وتحوّل عدوانيتها إلى أصوات انتخابية. فهذا المجتمع “الإسرائيلي” – اليهودي المعادي بكلّ أطيافه قد أخذ يزداد يمينية وتطرفاً ودموية في العقدين الأخيرين، تساعده على ذلك حالة العجز القومي التي تسبّب بها الربيع الزائف، وحالة تهافت النظام العربي التي انكشفت وتحوّلت علاقاته مع “إسرائيل” من السرية إلى العلنية، ثم الحالة الفلسطينية المكبّلة باتفاق أوسلو وما تبعه من التزامات وما أشاعه من روح انهزامية. لكن ما جرى قبيل رمضان وفي مطلعه من نشاط مقاوم ومن هبّة شعبية وتصدّ للاحتلال في نقاط التماس وعند محاولاته اقتحام المدن والمخيمات والقرى، كما في القدس وبؤرتها المقدّسة فيحسب للوعي الجمعي، هذا الوعي تحرك من تلقاء نفسه ومن إدراكه لطبيعة الصراع وديمومته، ومن خطورة الخطوات الاستيطانية تجاه المسجد الأقصى وذبح قرابين الفصح اليهودي فيه، وهي خطوة أولى باتجاه تشريع تقسيمه زمانياً ومكانياً، انْ نجحت ستتلوها خطوة ثانية بالاستيلاء عليه بالكامل ليصبح جبل الهيكل اليهودي، وهي تسمية أخذت تتردّد على ألسنة بعض الطامحين من بيننا بالرضا (الإسرائيلي).
لو كانت غولدا مئير على قيد الحياة وعايشت أيام “سيف القدس” المجيدة، وكيف اتخذ كامل الشعب الفلسطيني بوصلة مشتركة نحو القدس، ثم أنها لو عايشت تحرير الأسرى لأنفسهم وفرارهم من سجن جلبوع الأقوى تحصيناً، وما تبعه من استعادة مخيم جنين لدوره في تصدّر النضال وقدرته دائمة التجدّد في إنتاج المقاومين، وما لحق ذلك من استنهاض لكامل فلسطين المحتلة، إذن لأدركت غولدا مئير أنّ حركة التاريخ من القوة والثبات بحيث قد تستطيع إبطاءها أحياناً لكنها لا تستطيع إيقافها أو حرفها عن مسارها، ولرأت أن أعداءها قد استيقظوا من سباتهم العميق، وأصبحوا قادرين على إرساء توازن رعب ومعادلة قتال مع دولتها، وإعادة حركة التاريخ إلى سرعتها، فهي قصة كلّ يوم، أسقط فيها الوعي الذي استيقظ الحصانة عن أية ذقن أو عمامة أو كوفية تتخلى عن واجبها في الدفاع عن المقدس، وهي الشرارة المتوهّجة الدائبة الدوران حول القدس ومقدساتها كما الإلكترونات حول نواتها، ومرشحة لأن تمسّ أكوام القش المعادية لتشعلها ناراً…