إياكم الاقتراع لمن أفقركم وجوّعكم وهجّركم وقتلكم في البر والبحر
} علي بدر الدين
مأساة جديدة حلّت بأبناء طرابلس والشمال، وفاجعة مؤلمة أصابتهم وكلّ اللبنانيين في الصميم، وعشرات من المواطنين الفقراء الأبرياء، انضمّوا إلى مئات ضحايا قوارب الموت، بعد أن قرّروا الهجرة والهرب من جهنّم المنظومة السياسية وجحيمها، رغم الخطر المتربّص بهم في رحلةٍ مجهولة النتائج والمصير.
من الخطأ الفادح والقاتل، تحميل مسؤولية ما حصل إلى هؤلاء «المهاجرين» الذين «فضلّوا الموت في البحر على البقاء في لبنان والموت فقراً وجوعاً ومرضاً»، وفق ما يبوحون به مراراً عند كلّ مأساة أو قبل وقوعها.
الأمر العجيب وغير المقبول، هذا الكمّ من المزايدات وإبداء الأسف والحزن على الضحايا والتضامن مع عائلاتهم، ممن كانوا سبباً مباشراً أو غير مباشر، في إفقارهم وتجويعهم وحرمانهم وإذلالهم وتهجيرهم، وهم دائماً «يقتلون الناس ويمشون في جنائزهم، ويغسلون أياديهم من دمهم»، وصدفَ توقيت حصول هذه المأساة ـ الكارثة على أبواب الانتخابات، ما فتح لهم الشهية على المزايدة وإطلاق الوعود الكاذبة، وإعلان الوقوف والتضامن مع طرابلس وشعبها، ومحاولة استدراج العروض والمكاسب و»الأصوات» على جثث الطرابلسيين ودمائهم وآلام جرحاهم وخواء أمعائهم.
لا يا سادة، إنكم هذه المرة أخطأتم العنوان، و»زمان أول تحوّل»، فلن تكون طرابلس اليوم وغداً وبعد غدٍ، مكسر عصا لكم أو لغيركم، ولن تكون مرتعاً لأبالستكم وشياطينكم وفسادكم، وقد حان وقت الانتقام واسترجاع الحقوق والبداية ستكون حتماً في صناديق الاقتراع، و»إنّ غداً لناظره قريب».
هذه المنظومة السياسية والمالية لن تبدّل «جلدها التمساحي»، ولن تغيّر ولو «قيدَ أنملةٍ»، من نهجها في الفساد والمحاصصة والنهب والنصب والاحتيال والإلغاء، بل على العكس تماماً، فإنّ شيطنتها وخزعبلاتها وسيطرتها وسرقاتها وجشعها وطمعها واحتكاراتها و»تطويل» أياديها، لتتمدّد إلى كلّ القطاعات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والمعيشية والخدماتية، وإلى الإدارات والمؤسسات وفي كلّ الاتجاهات، وتقويض أسس الدولة بأنظمتها وقوانينها وتشريعاتها ومقدراتها ومواردها لن تتوقف لا قبل الانتخابات ولا بعدها، رغم الحال الكارثية والمأساوية التي بلغتها البلاد والعباد على كلّ المستويات، وهي مستمرة بتدفيعهم أثمانها الباهظة دماً ودموعاً وأوجاعاً وانهيارات وإفلاسات وديوناً وفقراً وجوعاً ومرضاً وقهراً وذلاً وهجرةً قسريةً ونهباً منظماً ومقونناً للأموال العامة والخاصة، ومنها بالطبع أموال المودعين في المصارف، حيث تتسابق الحكومة مجتمعةً، ومجلس النواب بكتله ولجانه المنفردة والمشتركة (باستثناء قلة قليلة) على «شرعنة» شطبها، أو أقله تحميل المودعين الجزء الأكبر من الخسائر، وإعفاء الدولة من أية خسارة، مع أنها ومصرف لبنان والمصارف، هم من سرقوا وهدروا وهرّبوا المال العام والخاص.
الأسوأ في ما يحصل هو التجاذبات والسجالات والمزايدات المفتعلة بين قوى المنظومة والسلطة، على مشروع قانون «الكابيتال كونترول «، الذي تحوّل فجأة إلى «الشغل الشاغل» للقوى السياسية والمالية الشريكة في المسؤولية ونهب الأموال وتهريبها إلى مصارف الخارج، و»الانقسام» المصطنع والمفبرك والمقصود حوله وعليه، لا قيمة فعلية له، ولا فائدة منه للمودعين، لأنّ «اللي ضرب ضرب واللي هرب هرب»، وأنّ رفع الصوت وادّعاء الحرص و»الغيرة « المفاجئة على أموال المودعين، ليست سوى «عاصفة في فنجان» وذرّ للرماد في العيون، و»أداة نصب» جديدة لاستخدامها في الموسم الانتخابي النيابي، علّها تزيد من نسبة المقترعين وتؤمّن للبعض، الحاصل الانتخابي أو «الصوت» التفضيلي الذي يبحث عنهما.
يبدو واضحاً أنّ الستار سيسدل على مسرحية «الكابيتال كونترول» وسيخفت الضجيج تماماً وتطوى صفحته، لينضمّ إلى ملفات ومشاريع قوانين تمّ ترحيلها إلى ما بعد الاستحقاق الانتخابي، مثل مشروع الموازنة، والتحقيق الجنائي والتشكيلات القضائية والديبلوماسية والتعيينات، وكلّ ما تمّ تداوله عن قرارات إصلاحية، لأنّ هذه المنظومة «مقتنعة» بأنها باقية في مجلس النواب لدورة جديدة مدتها أربع سنوات، وسيبقى القرار بيدها، كما السلطة والنهج المعتمد في «إدارة» شؤون البلد، ولا ضرورة او حاجة ملّحة عندها للاستعجال وحرق المراحل، وإضعافها انتخابياً، لأنها تدرك جيداً، أنّ قراراتها ستكون حكماً، مستبّدة وظالمة وغير شعبوية، وأن لا خيار أمامها سوى الالتزام بشروط صندوق النقد الدولي التي ستؤدي إلى المزيد من الانهيارات والفقر والتجويع، وليس أمامها إلا تقطيع الوقت والانتخابات وكسب قصب السباق إلى المجلس النيابي بأحجام «وازنة» وهي على مقربة أيضاً، من استحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
ويبدو أنها ضامنة عودتها «الميمونة والمباركة» إلى عرين التشريع، وإنْ تغيّرت بعض الأسماء والوجوه فهذا غير مهمٍّ، لأنه مجرد تفصيل شكلي، ما دام من يبقى أو يأتي محكوم بسقف لا يمكن لأحدٍ تخطيه، وضمانة هذه العودة متوفرة من خلال استسلام «الشعب» وخنوعه وخضوعه وصمته المريب، وقبوله طوعاً أو غصباً أو خوفاً، بما يدغدغ مشاعره ويحرّك غرائزه وعصبياته الطائفية والمذهبية، ويُقدِم مطواعاً إلى صندوقة الإقتراع، ليجدّد «البيعة» لمن باعه بثلاثين من الفضة، من دون أن يفكّر حتى بما أصابه وماذا ينتظره.
الأكثر «أهمية» لضمان العودة المظفّرة للمنظومة إلى الكرسي النيابي الذي اعتادت عليه، هو حكماً، القانون الانتخابي «النسبي» شكلاً، الذي تمّ رسمه وتفصيله وفق مقتضيات مصلحة المنظومة السياسية، القادرة على إنتاج السلطة المطلوبة من دون ان ينافسها أحد، او حتى يجرؤ على تجاوز «عتبة» المنافسة، لأنّ أيّ محاولة منه لدخول حلبتها سيكون مصيره السحق المؤكد، ومن «حق» أمراء المنظومة وزعمائها وحدهم، اختيار المرشح على لوائحهم، حتى لو كان مجرّد رقمٍ لا يقدّم ولا يؤخّر، والناخب مجبرٌ ومُكره على «التصويت» له في إطار اللائحة مع أنه يدرك انه لا يستحق «صوته»، المهمّ عند «مركّبي» اللوائح أنّ لهذا المرشح، يداً يرفعها ورأساً يهزّه قبولاً أو رفضاً وفق المطلوب منه، و»صوتاً» يدلي به عند الحاجة اليه. وليس مطلوباً ومهماً، أن يفقه بالتشريع ومساءلة الحكومة أو متى يطرح الثقة بها او بوزير مقصّر وغير جدير بالمسؤولية.
كلّ ما هو مطلوب منه، القيام «بواجب» العزاء في منطقته، وإطلاق الوعود الكاذبة وتخدير الجمهور والبيئات الحاضنة.
لكن، هل ستبقى الأمور على حالها بعد مأساة قارب الموت في طرابلس، هل ستذهب هدراً، دماء الضحايا والمفقودين والموجوعين والمحزونين على من ماتوا وفقدوا من دون حساب؟ أمّ أنّ دماء الضحايا في مأساة قارب الموت هي من سترسم مسار الانتخابات ومصيرها ونتائجها، او حتى إلغاءها او تأجيلها، وهي في الأساس، «واقفة ع الشوار» وعلى «كف عفريت» المجهول، وأية ريح عابرة ستطيح بها، فكيف ستحصل والموت المجاني يلاحق الناس في البر والبحر، بفعل سياسات منظومة لم تحترم شعبها ولا تحميه، بل تسرقه وتهدر دمه؟