نقطة التحوّل الثالثة في يوم القدس
ناصر قنديل
-ربّما لم يكن أحد، غير الإمام الخميني، يدرك الدور الذي سيلعبه الإعلان عن اعتبار الجمعة الأخيرة من شهر رمضان يوماً عالمياً للقدس، أبعد من مجرد إحياء مكانة القدس في الذاكرة الإسلاميّة، والذين تابعوا عن قرب حجم الاهتمام الذي أولاه الإمام لإنجاح إحياء هذا اليوم، وحجم المتابعة التي حظي بها الإحياء في أولوياته، كانوا يتساءلون عن سبب تشبث الإمام بهذه البصمة الشخصيّة التي وضعها على مسار المواجهة المفتوحة التي التزمتها الثورة الإسلامية في إيران تجاه فلسطين، وكيفية رؤيته لمكانتها الأبعد مدى بكثير من مجرد الإحياء التذكيريّ، أو الذكرى الإحيائيّة.
-بعد سنوات على الإعلان، والمتابعة الحثيثة من الإمام لضمان أوسع مشاركة على مستوى عدد الدول، وأعمق مشاركة على مستوى شرائح المجتمعات، بدا أن الرسالة التي أرادها الإمام وصلت للفلسطينيين، الذين ظهر لهم بوضوح أن قضيّتهم حية في وجدان أكثر من مليار مسلم على مساحة العالم، وأن نهوضهم بأعباء الحفاظ على القدس لن يذهب هدراً، ولم تكن محض صدفة أن تبدأ المواجهات الأشد حماوة مع قوات الاحتلال في التصاعد قبيل موعد يوم القدس، وتتصاعد إلى الذروة يوم الإحياء، كما تقول يوميات انتفاضة الحجارة، ولا كان صدفة أخرى أن يكون التزامن الموازي بين المواجهات الساخنة في انتفاضة الأقصى، والتي كانت القدس محورها، مع إحياءات يوم القدس، بعدما أعادت الانتفاضة الأولى القضية الفلسطينية إلى الساحة الدولية من بوابة المقاومة الشعبية، وشكلت الانتفاضة الثانية نقطة التحول نحو المقاومة المسلحة.
-استند الإمام إلى مشروعه بجعل المقاومة الهادفة لتحرير القدس مشروعاً يتغذّى من مكانة شهر رمضان لدى المسلمين، وما يرتبط بقيمه التي ترتكز على تشاطر الشعور بالحرمان، وعلى الاستعداد للتضحية من أجل مسح دمعة محروم، وعلى الاقتراب من مفهوم التوحيد القائم على رفض ألوهية قوى الدنيا، وعدم محاباتها، ورفض الخضوع لها، والخوف منها، أو السعي لمراضاتها، على قاعدة أن التوحيد يعني أن الله واحد، فهو إما أن يكون الله أو أميركا، وإذا كان الله يدعوك للقدس وتنهاك أميركا عنها فأيّهما ستختار؟ وإذا كانت أميركا تدعوك للتطبيع وينهاك الله عنه فأيّهما ستطيع؟ وسنة بعد سنة، كان اتساع الإحياء وتجذره، يجعل من اليوم العالمي للقدس نهراً شعبياً عالمياً جارفاً تتوسّع روافده وتزداد غزارة وتدفقاً وغضباً، وكان إيقاع هذا التعاظم يلقى صداه في فلسطين. وكان تنامي المقاومتين الشعبية والمسلحة في فلسطين يزيد هذا النهر الجارف إدراكاً لموقعه في مشروع التحرير والمقاومة.
-لا يمكن كتابة تاريخ تحوّل الداخل الفلسطيني نحو خيار المقاومة بعد هزيمة عام 1982 للمقاومة الفلسطينية في لبنان أمام جيش الاحتلال، دون الانتباه لمكانة ثنائيّة تصاعد المقاومة في لبنان بوجه الاحتلال وحضور اليوم العالمي للقدس، ولا يمكن كتابة تاريخ تحوّل الانتفاضة نحو المقاومة المسلحة وصولاً لتحرير قطاع غزة، منذ اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، دون الانتباه لمكانة ثنائية انتصارات المقاومة في لبنان وتعاظم حجم حضور اليوم العالمي للقدس، وها نحن مع مرور أربعة عقود على إعلان اليوم العالميّ للقدس. وفلسطين في خط المواجهة الأول، تستنهض العالمين العربي والإسلامي لنصرتها وقضيتها، ندرك أن ما كان في معركة سيف القدس، وما سيكون في الأيام المقبلة لهذه السنة وللسنوات المقبلة، ونحن نترقب التحوّل الثالث بتزاوج الانتفاضة الشعبية والمقاومة المسلحة في مشروع التحرير، لن يكون بعيداً عن إيقاع الحضور المتنامي لإيران والجمهورية الإسلاميّة فيها على مستوى المنطقة والعالم، ودرجة إخلاصها لقضية فلسطين ومشروع المقاومة فيها، ولا هو ببعيد عن الموقع المحوري للمقاومة الإسلامية في لبنان ودرجة صدقها في اعتبار قضية فلسطين والمقاومة لأجل تحريرها، قضية وجود ومصير. وبالتأكيد في قلب هاتين المعادلتين سيظهر حجم الأثر الذي تركه الإحياء المتنامي لليوم العالمي للقدس، داخل فلسطين وخارجها.
-عندما قال الإمام الخميني مع وصوله الى مطار طهران، اليوم إيران وغداً فلسطين، لم يكن يطلق مجرد شعار مبدئيّ، بل يعلن بدء تنفيذ خطة كان يملكها، ستتكفل ببصمة حضوره وهو غائب أن تمتلك ديناميكيّة تحقيقها.