متى عُرِفَ السبب بَطُلَ العجب…
} علي بدر الدين
يُحكى «أنّ فلاحاً يملك جملاً هو مصدر رزقه وقوت عياله، صدف أن مرض الفلاح يوماً وبات عاجزاً عن العمل، وظنّ أنّ الموت يتربّص به، فتضرّع إلى الله، ونذر أنه سيبيع الجمل بدينار واحد إنْ تعافى، ومن حسن حظه انه شفيَ من مرضه، وكما يُقال «راحت السكرة وجاءت الفكرة»، وتذكّر نذره، وتساءل في نفسه، كيف أبيع جملاً بدينار واحد وهو يساوي ألف دينار، كما أنّ هذا الجمل هو مصدر معيشته الوحيد وهو كلّ ما يملكه، فاغتمّ وحزن، وقرّر الذهاب إلى قاضٍ يسأله ماذا عليه أن يفعل، وهل يمكنه التراجع عن نذره، ووصف له معاناته وحالته السيئة، أجابه القاضي، عليك ان تفي بنذرك ولا بديل عن ذلك.
فقصد صاحباً له، وحكى له ما حصل معه وجواب القاضي، فدلّه صاحبه إلى شيخ محنّك، يعرف كيف يحلّ له المشكلة، وينقذه من ورطته، فتوجّه الفلاح على عجلٍ إلى هذا الشيخ، وقصّ عليه حكايته مع هدية «حرزانة»، فطمأنه الشيخ بأنّ الحلّ سهل وبسيط، وسأله، هل لديك هرٌّ في البيت، قال الفلاح نعم، قال له الشيخ، تربط الهرّ بحبل وتضعه على ظهر الجمل، وتنزل بهما إلى السوق، وتنادي بأنّ الجمل للبيع بدينار واحد، وتشترط بيع الهر الذي على ظهره بـ 999 ديناراً، يعني بيع «الجمل بما حمل»، نفّذ الفلاح ما طلبه الشيخ منه، وبدأ الناس يهرعون ويتسابقون على شراء الجمل، ثم يُصدمون ويتراجعون عن الشراء بعد الاطلاع على «العرض» ويقولون «ما أرخص هذا الجمل لولا الهر الذي على ظهره».
«حيلة الشيخ» أنقذت الفلاح وضمن بقاء جمله وخرج من نذره سالماً.
هذه الحيلة تمثّل تماماً، حال اللبنانيين مع قانون الانتخاب النسبي الحالي، الذي يُلزم الناخب، ان يقترع لكلّ مرشحي هذه اللائحة او تلك، فيما هو لا يرغب بالاقتراع لبعض المرشحين على هذه اللائحة، تماماً كما حصل مع الذين أرادوا شراء الجمل وحده، وفُرض عليهم شراء الهرّ الذي على ظهره، وهم لا يريدونه ولا يرغبون به.
هذا القانون الانتخابي يضع الناخب في تردّد وحيرة قبل «التصويت «للائحة التي يختارها، لأنها مشروطة وملغومة بأسماء لا تستحق «صوته» ولكنه مُكرَهٌ على ذلك وليس حرّاً ولا بطلاً.
رغم هذا القانون المفصّل على قياس المنظومة السياسية والسلطوية، الذي من الثابت والأكيد أنه سيعيد انتخابها أو معظمها على الأقل، فإنها تبدو في الظاهر أنها خائفة ومتوجّسة من نتائج الانتخابات، ومن أن «يفلت» زمام الأمور من يدها، ما يؤدي إلى خسارتها مقعداً في هذه المنطقة او مقاعد قليلة في مناطق أخرى، لأنّ هذه «الخسارة» إذا وقعت فهي ستفقدها الهيبة والنفوذ وبعض السلطة والامتيازات، مع أنها تعي تماماً، انها ستبقى ممسكة بمفاصل السلطة والمال والقرار، ورغم ذلك تراها متوتّرة مما هو آتٍ، كلما اقترب موعد الانتخابات النيابية ومنهمكة في التخطيط لمواجهة ما قد ينتظر بعض مكوناتها من مفاجأت غير سارّة، قد لا تكون واردة في حساباتها الآنية والمرحلية، وتتوهّم وتدرك جيداً، انه على نتائج هذه الانتخابات قد يتوقف مستقبلها السياسي، خاصة أنّ الكثير منها يعتبرها مفصلية، وليست كأية انتخابات نيابية حصلت وعبرت وكانت بالنسبة لها او لبعضها «كشربة ماء»، لأنها هذه المرّة تشكّل بالنسبة لها حجر الزاوية لكلّ ما هو قادم، وعلى هذه النتائج يتحدّد مصيرها، بل ومصير لبنان برمّته وشكل نظامه السياسي وسلطته، لأنّ أمام المجلس النيابي الجديد أياً تكن مكوناته وتوجهاته السياسية، استحقاقات دستورية بالغة الأهمية، لأنه هو من «سيقرّر وينتخب» رئيس الجمهورية الجديد ويختار رئيس الحكومة ثم تشارك كتله في اختيار الوزراء وبعد ذلك يمنح الحكومة الثقة، ثم ينتظره الإعداد والتحضير لانتخابات المجالس البلدية والاختيارية، التي عادة ما تكون الخلفية الشعبية الحاضنة لأيّ فريق سياسي، خاصة على الصعد المناطقية وأيضاً الطائفية والمذهبية، بل أكثر من ذلك فإنّ رؤساء البلديات والمختارين، لطالما شكلوا مفاتيح انتخابية لأمراء السياسة والسلطة والمال والنفوذ والتحاصص، والدرع الواقية لهم في الحملات الانتخابية، وخط دفاعهم الأول والتستّر عليهم و»تبييض» سواد صفحاتهم، رغم كلّ الموبقات والرذائل التي ارتكبوها ومارسوها طوال عقود او سنوات حكمهم وتحكمهم وتسلطتهم، وهم وحدهم من يثق بهم «ليس لوجه الله» إنما على قاعدة تبادل المنافع والمكاسب في السلطة وغيرها.
لا غرابة وليس ما يثير الدهشة، فيما يطفو على سطح المشهدين السياسي والانتخابي من صخب وضجيج وتكبير أحجار الأسابيع والأيام والساعات التي تسبق اليوم الانتخابي الموعود، وكأنه «يوم الحشر والقيامة»، وقد باتت هذه الانتخابات «الشغل الشاغل» للجميع، حيث طغت على كلّ شيء سواها، ولم يعد همّ البلد ولا ناسه على أجندة أحد من أفرقاء المنظومة، لأنّ الانتخابات وحدها ونتائجها باتت هي الأولوية، كما البحث عن الأحجام والأوزان التي تحدد لمن سيكون القرار الفيصل والتأثير المباشر.
لهذا كله ومن أجله تخاض «معارك كسر العظم» والإلغاء وتحديد الأحجام بين القوى المتحاربة، حيث بلغ الصراع أشدّه، وأصبحت «الضرورات تبيح المحظورات» وبات كلّ شيء مباحاً ومتاحاً استعماله، بما فيها التحالفات الإنتخابية غير المتوقعة بين قوى سياسية وحزبية ليس بينها سوى ما «صنعه النجار»، والأسوأ من كلّ هذا وذاك، هو لجوء بعض اللوائح والمرشحين إلى رفع منسوب الخطاب الطائفي والمذهبي وإثارة الغرائز والعصبيات، وتقاذف الاتهامات وتحميل المسؤوليات لبعضهم البعض، من دون أيّ اعتبار لحال البلاد والعباد الكارثية والمأساوية التي يتآكلها صدأ الانهيار الشامل، ويغزوها جراد الجشع والطمع والاحتكار، الذي التهم الأخضر واليابس وأفقر الشعب وجوّعه وهجّره غصباً عنه وأغرقه في صراعات عبثية «لا ناقة له فيها ولا جمل» ولا منفعة، فقط من أجل أن تفوز المنظومة بسبق الانتخابات وتستكمل الإجهاز على القليل المتبقي من وطن ودولة وشعب وأمل.
إنْ عُرف السبب بطُل العجب، لأنّ هذه المنظومة تريد إثارة الكثير من الغبار لتغطية ما فعلته بالبلد والشعب، وفي ما بلغه من انهيارات متتالية وإفلاسات، وإفقار وجوع وبطالة وحرمان، وتعطيل للقطاعات الإنتاجية وللمؤسسات والإدارات والسلطات على أنواعها، وليس لديها القدرة والأعذار والتبريرات التي تنفي مسؤوليتها عما حصل، الا باستمرارها في مواقعها وحصاناتها إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً…