انقلاب المعادلة الروسيّة بين محور المقاومة و«إسرائيل»
ناصر قنديل
– كثيرة هي الأسباب التي كانت تسمح بالقول إن هناك هامشاً روسياً استثمر عليه الإسرائيليون في بناء استراتيجيتهم المسمّاة، معركة بين حربين، والتي كانت الغارات الإسرائيلية على سورية تحت شعار منع وصول السلاح الإيراني الى حزب الله، ومنع تركيز بنى عسكرية لإيران وقوى المقاومة في سورية، وخلال سنوات عرفت هذه المعادلة الكثير من المنحنيات والمتغيرات رسمت ما عرف بقواعد الاشتباك، التي منحت “إسرائيل” زمام المبادرة العسكري مقابل ثنائية، تعامل شبكة الدفاع الجوي السورية مع الغارات والصواريخ الإسرائيلية من جهة، والاحتفاظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين لمحور المقاومة من جهة ثانية، بعدما قيّدت جولات الاشتباك نطاق الغارات الإسرائيلية بضوابط متلاحقة، منها حرمة الدخول الى الأجواء السورية بعد إسقاط سورية للطائرة الحربية الإسرائيلية عام 2018، والاكتفاء بغارات من البحر والأجواء اللبنانية والقصف من الجولان السوري المحتل، ومنها الردّ الفوريّ أو دون تأخير، عندما يسقط شهداء أو يتم إلحاق أذى يستدعي التذكير بالخطوط الحمراء الممنوع تجاوزها، ومنها تجنب استهداف مواقع المقاومة في لبنان، ومنها الابتعاد عن حركة الطائرات الروسية والاحتماء بها أو بالطائرات المدنيّة خلال الغارات.
– لم تكن روسيا تخفي عدم رغبتها بجعل وجودها في سورية مصدراً لتأزم علاقتها بـ”إسرائيل”، فهي جاءت بقواتها تحت عنوان دعم سورية وجيشها في الحرب التي استهدفتها منذ عام 2011، وكانت الجماعات الإرهابية هي الأداة المسلحة التي سيطرت على أجزاء من الأراضي السورية، رغم ادراك موسكو أن وراء هذه الحرب حلف دولي تشكل “اسرائيل” أحد اطرافه، ورغم إدراك موسكو أن واشنطن هي من يقود حلف الحرب على سورية، وأنه في أية مواجهة روسية أميركية فإن “إسرائيل” جزء عضويّ من جبهة حلفاء أميركا، لكن موسكو التي تعتبر أن الصراع بين سورية و”إسرائيل” سابق على تمركزها في سورية، وتعتبر أن الصراع بين محور المقاومة و”إسرائيل” أكثر جذرية من مضمون الحرب التي تخوضها في سورية، هكذا قامت معادلة التحالف بين سورية ومحور المقاومة مع روسيا في مواجهة الإرهاب وإنهاء الاحتلالين الأميركي والتركي، على قاعدة فصل المواجهة مع “إسرائيل” عن هذا التحالف، من جهة، وتوفير الشروط اللازمة على مستوى الظرف السياسي والمقدرات العسكرية للردّ من خارج سورية، لإعلان عندها عن سقوط هذه المرحلة وقواعد الاشتباك التي حكمتها، بينما سعت سورية لمنح الأولوية للمعارك التي يشكل الدور الروسي عاملاً حاسماً في كسبها شمال سورية، ومواصلة السعي لتطوير سلاح الدفاع الجوي السوري لتعزيز وتوسيع نطاق حرمة الأجواء السورية، نحو حرمة الأراضي السورية، والى حين ذلك الاكتفاء بالتصدّي للغارات بالدفاعات الجوية، وما قد يرافقها بين حين وآخر من صواريخ دفاع جوي تتم برمجتها للسقوط داخل وفي عمق الأراضي السورية والفلسطينية المحتلة.
– جاء التحوّل الكبير في العلاقات الدولية والإقليمية الذي فرضته الحرب في أوكرانيا، وبدأت رياحه تضغط على مواقف الأطراف الإقليميّة، وكانت العين الأميركية على “إسرائيل” وسعيها للحياد تفادياً لتغيير قواعد التعامل الروسية مع الغارات الإسرائيلية على سورية، وبدأ بعد شدّ وجذب أن واشنطن لا تستطيع التسامح مع حياد “إسرائيلي” يهدّد بتفكيك جبهة الحلف بوجه روسيا، تحت شعارات للخصوصية مشابهة للخصوصية “الإسرائيلية”، من تركيا الى الخليج وما أظهرته فوارق التصويت بين قرار الجمعية العامة بإدانة الحرب وقرارها بتعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان، وبدأت تظهر علامات التموضع الإسرائيلي في الحرب الأوكرانية ضد روسيا، ولعله من المفيد التذكير هنا أن أوكرانيا معقل للحركة الصهيونية جعلها مرشحة من ضمن لائحة ضمّت فلسطين والأرجنتين لتكون أرض الميعاد الصهيونيّة، حيث كانت مملكة الخزر، إحدى الممالك اليهودية عبر التاريخ، ولم تكن كلمات وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف التي استفزت “اسرائيل” عن دماء أدولف هتلر اليهوديّة، مجرد اقتباس تاريخيّ لمواجهة مزاعم فلاديمير زيلنسكي، وهو استفزاز عقائدي عميق لا يمكن أن يرد في حال انفعال ولا تعبيراً عن غضب، كما أظهرت ردود الكرملين ووزارة الخارجية الشديدة القسوة على الاحتجاج الإسرائيلي، وما رافق الرد الروسي من كشف عن مشاركة مرتزقة صهاينة في الحرب ضد روسيا، ومعدات إسرائيلية، وأدوار استخبارية إسرائيلية، في التنصت والأقمار الصناعية وتشغيل شبكات الدفاع الجوي.
– تدرك روسيا أنها تخوض حرب تغيير قواعد العلاقات الدولية مع الغرب، وأن هذه الحرب ممنوع أن تنتهي دون تحقيق هذا الهدف، خصوصاً لجهة فرض التراجع على المكانة الأميركية المتحكمة بالهيمنة السياسية والاقتصادية والدبلوماسية على العالم. كما تدرك روسيا أن الحرب في أوكرانيا ليست كافية لتحقيق هذا الهدف، وأن أهمية هذه الحرب بأنها فتحت الباب لتغيير قواعد اللعبة الدولية، ومنها حرب الطاقة، وحرب العملات، لكن منها أيضاً حروب إقليمية لها حساباتها وقواها الذاتية التي تنتظر الفرصة المناسبة، كسعي الصين لاسترداد السيادة على تايوان، وسعي كوريا الشمالية لكسر الحصار المفروض عليها، وسعي محور المقاومة وعلى رأسه إيران لمكانة “إسرائيل” وحجم حضورها في المنطقة، والتي تشكل مجتمعة البيئة الدولية الجديدة، لفرض نظام عالميّ جديد، وربما تكون الحرب الإقليمية المقبلة تحت سقف فرض معادلات جديدة لفك الحصار عن غزة، وردع الغارات على سورية، وربما فتح الطريق لتحرير الجولان، بعض الحراك الدولي المطلوب روسياً، والذي تكفي فيه إشارات كالتي ظهرت بعدم الممانعة، حتى تلتقطها القوى المعنيّة وفي طليعتها محور المقاومة للانتقال من مرحلة إلى مرحلة، فلعل استهداف الأمن الإسرائيلي يشكل الخاصرة الرخوة في نظام السيطرة الأميركيّ على العالم، وقد آن أوان هزّه.