الروبل الروسيّ… يضرب وحدة أوروبا!
د. جمال زهران _
مع بداية الأزمة الأوكرانية قبل التدخل الروسي العسكري في أوكرانيا، في 24 فبراير/ شباط 2022، كان التنسيق الأميركيّ والأوروبيّ، في قمته، ويتّسم بالوحدة في القرار والموقف، إلى درجة أنه بمجرد أن تبدأ الولايات المتحدة في الموقف والقرار، نُفاجَأ بأوروبا تسير وراءها، حتى يبدو أنها بلا عقل بفعل المصلحة المشتركة بين دول أوروبا من جانب، وبينها وبين أميركا من جانب آخر. فضلاً عن أنّ التصوّر الذي ساد لدى الأوروبيين، وذلك طبقاً للرؤية الأميركية، أنّ الأزمة سوف تنتهي بسرعة بعد إنزال العقوبات الشاملة والمكثفة على روسيا!
ولم يدركوا بعد أنّ روسيا كانت مستعدّة بكافة ردود الأفعال على هذه العقوبات، وتتوقعها، وأعدّت خطة استراتيجية ببعديْها «العاجل والآجل»، بحيث تتفادى هذه العقوبات الغربية من جانب، وتوقع الهزيمة الاستراتيجية بهذا الغرب الاستعماريّ المغرور من جانب آخر.
كما أنه في بداية العقوبات، وردود الأفعال الروسية، ومع إعلان روسيا أنها ستتخذ من الروبل، عملة دولية مقوّمة بالذهب، أن الأوروبيين يستطيعون المكابرة والتعامل المغرور مع روسيا، بالإصرار على رفض استيراد الغاز من روسيا عامة، وبالروبل على وجه الخصوص، وأعلنوا التحدي!
إلا أنّ الملاحظ أنه مع صمود روسيا في مواجهة العقوبات التي حوّلتها إلى نتيجة صفرية أيّ معدومة التأثير، وكذلك الإصرار على بيع النفط والغاز، بل وكلّ منتجاتها بالروبل، ورفض التعامل بالدولار، أن تراجعت دول أوروبية عن إصرارها، وأعلنت قبولها للتعامل مع روسيا بالروبل، تحت تأثير الحاجة الشديدة وبلا بديل، للغاز الروسي الذي لا تستطيع دول أوروبا وشعوبها، العيش بدونه في هذه الآونة، وأنّ طاقة الأوروبيين على الاحتمال نفدت بالفعل. وكان في مقدّمة هذه الدول، النمسا وألمانيا، وفي الطريق العديد من الدول في مقدّمتها بولندا، وغيرها، وهي إنْ تزايدت أعدادها، فإنّ مآل الوحدة الأوروبية، يصبح في مهب الريح، إن لم يعصف ذلك بفكرة الاتحاد الأوروبي. بعبارة أخرى، فإنّ فكرة الاتحاد الأوروبي وتنظيماته يمكن أن تتهاوى تحت الضغوط الروسية والقدرة على استمرار روسيا على تجاوز العقوبات الشاملة من أميركا وأوروبا.
ومن ثم فإنّ أوروبا أمامها خياران، لا ثالث لهما، إما بتفكك وحدتها والتعامل الفرديّ مع روسيا لاستيراد الغاز والنفط، خشية أن تنهار الصناعة الأوروبية، ومعها انهيار المجتمع الأوروبي. وإما بازدياد وحدتها، والانفصال التامّ عن أميركا وبريطانيا، الدولتين اللتين تقودان قاطرة الهجوم على روسيا، وإدارة الأزمة معها. وفي الأخير، فإنّ أوروبا ستفشل في الصمود، وستتعرّض إلى أزمة تفكك، ستعيش فصولها تدريجياً، ان لم يكن بشكل متسارع جداً.
نحن إذن أمام فصل جديد في إدارة الأزمة الأوكرانية وتداعياتها. وفي سيناريوات التداعي ما يلي:
1 ـ ضرب الوحدة الأوروبية، والذي يبدأ بالخلافات التي ستتصاعد إلى انشقاقات، فإما إلى ضرب فكرة الوحدة والعودة إلى ما قبل معاهدة ماستريخت في هولندا عام 1991، والذي بموجبها تأسّس الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن ضرب العملة الأوروبية والعودة إلى العملات الأوروبية القطرية أو الوطنية (الفرنك الفرنسي، والمارك الألماني، وغيرهما). وإما إلى تعزيز التقارب والعمل الوحدويّ، بخيار التعامل مع روسيا وفقاً لشروطها، واستبعاد التنسيق مع الولايات المتحدة التي تستهدف ضرب كلّ من أوروبا وروسيا معاً! والأرجح في تقديري تعرّض أوروبا وتنظيمها الاتحاد الأوروبي، إلى التمزق والانشقاق، أكثر من التقارب والتوحّد.
2 ـ ظهور تكتل اقتصادي في الشرق بقيادة روسيا والصين، يضمّ دولاً آسيوية كبرى، في مقدّمتها الهند التي أصرّت على التعامل بالروبل، والتخلي عن الدولار، وكذلك كوريا الشمالية، وإيران وسورية، ودول أخرى في الطريق من بينها دول عربية وشرق أوسطية، لنصبح أمام مشهد عالمي جديد، يعيد هيكلة النظام الدولي بشقه الاقتصادي، تمهيداً للجانب السياسي.
3 ـ تولد صراع عالمي كبير بين عملتي الروبل والدولار، قد تتمخض عنها هزيمة الدولار أمام الروبل، وانعكاسات ذلك على المكانة والهيمنة الأميركية على العالم بدولاراتها المزيفة التي يتمّ طبعها بدون غطاء ذهبيّ موازٍ طبقاً لاتفاقية (بيرتون) عام 1944، والنتيجة هو انكشاف الدولار أمام العالم، لتضيع معه الهيمنة الأميركية على الاقتصاد العالمي، والذي ظلّ متسيّداً، أكثر من سبعين عاماً! وعلى ما يبدو أنّ لكلّ شيء نهاية، مهما كان النفوذ والهيمنة وجبروتهما!
4 ـ تولد نظام عالمي جديد، تظهر ملامحه تدريجياً، والمؤكد أنه ستكون له تداعيات على دول العالم الصغرى، قد تكون في صالحها لو أحسنت هذه الدول استغلالها، وعودة أو إحياء منظمة «عدم الانحياز»، أو تكوين منظمة جديدة للعالم الثالث. والمشكلة في الخيار الأخير عدم وجود زعماء أمثال ناصر ونهرو وسوكارنو وتيتو الذين أسّسوا عدم الانحياز، الأمر الذي يتطلب العمل بخيار تنشيط عدم الانحياز الحالي.
ولا شك في أنّ كلّ يوم، نشهد فصلاً جديداً في إدارة الأزمة الأوكرانية، دعونا نرى ونتأمّل، لعلّ الآتي أفضل مع تفجّر هذه الأزمة.