الأزمة والخبز…
سعادة مصطفى أرشيد _
يمثل الخبز الركن الأساس في النظام والعادات الغذائيّة عند معظم الشعوب ونحن من هؤلاء، وذلك عبر التاريخ الواضح والجلي للتاريخ البشري، فالطريقة القديمة عند الأديان ما قبل السماوية لنيل البركة كانت مرتبطة بالخبز والخمير، ولاحقاً أصبحت طريقة التناول المسيحيّ باعتبار الخبز هو القربان والجسد الإلهي، فيما لا يزال يستعمل في بلادنا للقَسَم الصادق، ومشاركته بين الأفراد يصبح ويمثل عهداً وعقدا أدبياً ملزماً، في اللغة الفصحى يُسمّى «قوت»، وفي اللهجة المصرية يُسمّى «عيش»، فهو الأساس الذي لا غنى عنه لاستمرار العيش وكلّ ما تجاوزه هو إضافة.
تزوّد كلّ من روسيا وأوكرانيا العالم العربي بما يقارب 70% من احتياجاته من القمح والشعير والذرة الصفراء وبذور وزيوت عباد الشمس. وهذه الحقائق مقلقة، إذ تسبّبت الحرب بتعطيل توريد كثير من منتجات طرفي الحرب للأسواق ومنها تلك الواردة آنفاً، فالموانئ مغلقة والبحر الأسود مليء بالألغام البحرية ولم يعد آمناً للملاحة، وهو الذي يُعتبر شريان القمح العالمي، وذلك بسبب الأعمال الحربية والحرائق الناتجة عنها خاصة في شرق أوكرانيا حيث السهوب عالية الخصوبة.
تتبادل أطراف الحرب الاتهامات حول المسؤولية عن انقطاع توريد المواد الأساسية، ولكن النتيجة في ما يتعلق بنا واحدة، وهي أنّ التوريد قد تعطل وتزويدنا به قد توقف، فيما البحث عن مصادر أخرى ليس بالأمر الهين ويحتاج إلى وقت وإلى مال، فالقمح الأميركي والكندي أغلى سعراً وأبعد مكاناً، فيما قد يتوافر في السوق العالمي من القمح منخفض الثمن قد ارتفع ثمنه حيث قلّ العرض وازداد الطلب، وذلك أمر طبيعي وفق أوليات علم اقتصاد السوق، وحسب ما ورد على لسان دايفد ماليناس، رئيس البنك الدولي: «أنّ الزيادة في سعر القمح قد وصلت إلى 37% عالمياً ومرشحة للارتفاع أكثر». وحذّر من «أنّ الأزمة الروسية الأوكرانية سوف تقود إلى أزمة غذاء عالمي قد تصل إلى حافات الكارثة الإنسانية».
العالم العربيّ وبسبب اعتماده الكبير على مصادر القمح هذه، سيكون في طليعة المتضرّرين، ومرشح أكثر من غيره لما حذّر منه رئيس البنك الدولي، وتشير التقارير إلى أنّ بعض دول العالم العربي لا تملك مخزوناً من القمح يكفي لأكثر من شهرين، فيما تدّعي دول عربية أخرى أنها تملك ما هو أكثر من ذلك، وهي تقديرات تحوم حول دقتها الشكوك .
في عام 2011 كان المتظاهرون في مصر ضدّ نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، يهتفون نريد عيش (خبز) ثم يضيفون بعد ذلك شعارات العدالة أو الحرية أو الكرامة، لكن العيش (الخبز) أولاً، مصر وواديها ونهر النيل تملك من القدرة على تزويد العالم العربي وأكثر بكامل حاجته من القمح، لو توافرت الإدارة والإرادة وأوكل الأمر إلى أهله. فاتورة الدعم الحكومي للخبز بلغت في مصر قبل الأزمة 3,2 مليار دولار، ومرشحة اليوم أن تتجاوز الأربعة مليارات، هذا بالإضافة إلى الارتفاعات غير المسبوقة في أسعار الأعلاف والأسمدة والحديد والنفط والغاز، وفي حين يتحدث النظام عن ارتفاع مداخيل قناة السويس بسبب أعمال التوسعة، ولكننا نرى أنّ جراد الحرب الروسية الأوكرانية قد التهم كلّ تلك المداخيل ويحتاج للمزيد، الذي لن يحدّه من عجزه المالي النظام إلا في مزيد من الاقتراض.
سلعة الخبز وضرورة توفرها وبأسعار زهيدة، ضرورة لدى كلّ المجتمعات بما فيها الأكثر ثراء ورفاهية، فهي مسألة من مسائل الأمن القومي ومن الدرجة الأولى، ولطالما كانت سبباً من أسباب التوترات الاجتماعية والثورات التي انتهت بطابع سياسيّ وأودت بأنظمة وأطاحت بحكام وحكومات. وهذا ما قد ينتظرنا في الأشهر المقبلة القليلة، بالطبع مترافقاً مع عوامل أخرى، خاصة أنّ معظم أنظمتنا تعاني من الفشل في إدارة ملفات الاقتصاد والتنمية، وصولاً إلى عجزها عن حماية أمنها القوميّ.
قبل قرنين ونيّف من الزمن، اشتعلت نار الثورة الفرنسية وهي أشهر وأهمّ الثورات في التاريخ على الإطلاق، بما أفرزته من نتائج وتغيّرات شملت العالم بأسره لا فرنسا فحسب، في أيام الثورة الأولى وفيما كان يهتف المتظاهرون: نريد خبزاً، تساءلت الملكة ماري أنطوانيت: إذا كان هؤلاء لا يجدون خبزاً، لماذا لا يأكلون البسكويت؟ ماذا ستقول ماري أنطوانيت عن عالمنا العربي قريباً إذا اندلعت الأزمة؟