یوم الشاعر الفردوسي… احتفاءٌ باللغة والأدب
} السيد محمد رضا مرتضوي*
يجمعنا الأدب دائماً، والثقافة هي محطتنا المشتركة حيث نتبادل فيها المجد والحضارة والحكايا الأدبية والفكرية، فتحلو المجالس وترتقي الشعوب وتغتني.
في يوم اللغة الفارسية، تعود بنا ذاكرة التاريخ إلى حكيم الكلام وشاعر إيران الملحمي أبي القاسم الفردوسي، حارس الفارسية والمدافع الأول عنها أمام غزوة الثقافات على امتدادها وعلى اختلافها. بل إنّ هذا اليوم الذي يحتفى فيه باللغة الفارسية قد تمّ تحديده بهذه المناسبة، أيّ في يوم تكريم الفردوسي أو يوم الحكيم الشاعر الفردوسي الكبير.
يشهد تاريخ الأدب العالمي بأنّ الحكيم الفردوسي كان رائداً في الوفاء للغته الأمّ بالكامل، حيث لا تتضمّن دواوينه وأعماله مثل الشاهنامة أيةَ مصطلحاتٍ غير فارسية، مما يعكس إخلاصه أو تعصّبه ـ كما يروق للبعض أن يصفه ـ للغة الفارسية دون سواها، حيث استحقّ بذلك لقب حارس اللغة.
اليوم تحمل الجامعاتُ ومعاهد اللغات اسم الفردوسي في بلادنا، ونجدُ في كلّ بقعةٍ من إيران صَرحاً كبيراً لهذا الشاعر العظيم، إلى جانب مقامه وتمثاله في مدينة طوس الإيرانية، لنتذكر دائماً مكانته في عالم الأدب والثقافة وصناعة الحضارة.
ترك الفردوسي أثراً خالداً جعله يدخل التاريخ من أوسع أبوابه. إنه “كتاب الملوك” أو الشاهنامة المؤلفة من ستين ألف بيت تحكي تاريخ بلاد الفرس خلال حقباتٍ تاريخيةٍ مختلفة. تتميّز الشاهنامة بالأسلوب الملحمي الحماسي والسردية التي اعتاد الإيرانيون منذ القدم أن يجتمعوا في مجالس حكواتية للاستفاضة من مضامينها والعبر الكامنة في قصصها. وقد قارن النقّاد الشاهنامة بإلياذة “هوميروس” الشاعر الإغريقي الشهير. حتى أنهم أطلقوا على الفردوسي إسم “هوميروس إيران”.
إنّ العامل الأهمّ الذي جعل أعمال الفردوسي على هذا القدر من الأهمية الأدبية والبلاغية والشعرية، هو أنه كان قارئاً نهماً وباحثاً دؤوباً في التاريخ الفارسي القديم، حيث كان كلما طالع عن تاريخ بلاده أكثر، ازداد إعجاباً بها وتمسكاً بأصالتها وأعرافها ومميزاتها الجغرافية والاجتماعية والحضارية عموماً. مما جعل كبار شعراء العالم يتأثرون بالشاهنامة وبأسلوب الفردوسي من أمثال الأديب الفرنسي فيكتور هوغو وغوته وآخرين.
إذن، تتجلى قيمة الشاهنامة في أنّها جمعت التاريخ الفارسي المبعثر في ملحمة واحدة تتمتع بكافة العناصر الحماسية العالمية، بل تفوق كلّ حماسات العالم، اذ انّ الشاهنامة تكاد تحوي عشرات الملاحم التي لا تقلّ ايّ منها عن اية حماسة عالمية أخرى. من ذلك الملاحم البطولية لرستم، لا سيما “رستم وسهراب” و”رستم واسفنديار” و”هفتخوان رستم” وكذلك حكاية “زال وسياووش” وغيرها من الملاحم الفياضة بالحكم والعبر والحس الحماسي والمفاخر والامجاد القومية الإيرانية وأساطيرهم القديمة الغابرة.
وتموج حكايات الشاهنامة بالقيم الأخلاقية والإنسانية، فأبطالها رمز للإنسان المثالي المتعالي الذي يتسلح بقيم الحق والخير والجمال. تعتبر الشاهنامه إذن، أهمّ وأشهر عمل أدبي في تاريخ الأدب الفارسي الكلاسيكي خلال العصور الإسلامية في إيران، بل وتعدّ من أهمّ وأعظم الأشعار الملحمية في التاريخ بشكل عام.
ومن المعروف أنه منذ عام 641م قد دخل المسلمون إيران، وأثّرت اللغة الفارسية على الذوق الأدبي، وأصبحت ظاهرة في الأدب العربي من منتصف القرن (8م) فصاعداً. وإن كثيراً من القصص والحكايات قد انتقلت من إيران إلى العالم العربي وحتى إلى غرب أوروبا. وكان الأدب الفارسي أكثر تنوعاً في أشكاله ومحتواه من الأدب المكتوب باللغة العربية الكلاسيكية (لغة المخطوطات). وعلى الرغم من أنّ اللغة الفارسية اتخذت الكثير من القواعد الأساسية للغة العربية (كعلم العروض وأنماط القوافي)، إلا أنه كُتبت بها أنواع جديدة من الأدب كالشعر الملحمي الذي قدّم من إيران والشعر الغنائي الرائع والمرن الذي وصل إلى أجود تعبيراته في اللغة الفارسية.
اليوم نحتفي باللغة الفارسية وبالفردوسي معاً، وهو يومٌ اقترنت فيه لغتنا بذكرى حكيم الكلام ابن مدينة طوس الذي شغف بوطنه وبلغته فكان خير رسولٍ لحضارة بلاده في كافة أصقاع العالم. هوميروس الشرق أو هوميروس إيران الذي أصبح أسطورة التاريخ الفارسي الكبرى، والذي ترك إرثاً لا مثيل له لا من قبل ولا من بعد لكل الأجيال من بعده، فلا نجد شاعراً كبيراً اليوم عربياً أو إيرانياً إلا وقد تأثر بالفردوسي وقرأ أبيات الشاهنامة وقصصها.