أوكرانيا: روسيا تحقق أهدافها والغرب يتعنّت وينتحر
العميد د. أمين محمد حطيط*
بات واضحاً انّ روسيا تمكنت في عمليتها الخاصة التي حاولت تجنّبها بشتى الطرق ولم تفلح، خلال هذه العملية، حققت إنجازين أساسيين الأول قطع الطريق على أوكرانيا في سعيها للانضمام الى الناتو وما يستتبعه ذلك من مخاطر وتهديدات للأمن الروسي، والثاني جعل استقلال إقليم الدونباس عن أوكرانيا حقيقة واقعة وتأكيد استقلال جمهوريتيه دونيتسك ولوغانسك اللتين اعترفت بهما روسيا جمهوريتين مستقلتين وأمدّتهما بكلّ الطاقات اللازمة لحماية ذاك الاستقلال. ونعتقد انّ إكمال السيطرة على الجزء المتبقي بيد كييف من إقليم الدونباس وهو لا يصل الى خمس مساحة الإقليم باتت محسومة من حيث المبدأ، اما الإنجاز الفعلي فإنّ مسألته باتت مسألة وقت فقط، وقت لم تجعله روسيا عنصراً ضاغطاً عليها ولم تتقيّد فيه بمهل ولم تضع له سقوفاً.
أما على المقلب الآخر من المشهد فيبدو انّ حرب الاستنزاف التي خططت أميركا لجرّ روسيا إليها في أوكرانيا انقلبت على أصحابها واستطاعت روسيا ان تتفلت منها بالاستناد الى اعتمادها استراتيجية مرنة تقوم على ضبط الجبهات وتجنب الحرب الصاخبة والإحجام عن زجّ القوى الكبيرة في الميدان، كما وتجنّب الانفلاش العسكري وعدم التوسّع في ميادين القتال خاصة تلك التي تتطلب خطوط إمداد طويلة وأخيراً العمل بأسلوب الحصار الجزئي او الشامل، بحيث يتحقق الحصار المرن المقرون بالتهديد الجدي لمنع أوكرانيا من ترميم عناصر قوّتها وبنيتها العسكرية والاقتصادية بما في ذلك الحد من الاستفادة من المساعدات العسكرية التي تقدّمها المجموعة الغربية بقيادة الولايات المتحدة التي أصغت جيداً للتحذير الروسي من تزويد أوكرانيا بأسلحة استراتيجية هجومية بعيدة المدى قد تستعمل في قصف العمق الروسي.
وعلى هذا الأساس يلاحظ بأنّ روسيا لقد تحوّلت وبعد الأسابيع الستة الأولى من بدء تنفيذ العملية من استراتيجية الضغط من أجل التفاوض للحصول على ثمن سياسيّ مقابل وقف العملية، الى استراتيجية القضم والسيطرة وفرض الأمر الواقع الذي لن يدع روسيا وامنها رهن مناورات كييف وألاعيبها على طاولة التفاوض. وبهذا حددت روسيا وعملًا باستراتيجيتها الجديدة ٣ أهداف ميدانية لعمليتها العسكرية الخاصة والمستمرة في الشرق والجنوب:
ـ أول الأهداف هو ما بات رهن التحقق الأكيد ويتمثل بإكمال السيطرة على كامل إقليم الدونباس وهو العمل الذي يوصف بالأدبيات السياسية والعسكرية الروسية بأنه «تحرير الإقليم» من سيطرة كييف ومَن معها من قوات نازية.
ـ أما الثاني فهو إحكام الحصار البحري وعزل أوكرانيا كلياً عن مياه بحر أزوف والبحر الأسود مع مراقبة الحركة البرية للحد من نقل المساعدات العسكرية الغربية الى أوكرانيا.
ـ والثالث يتمثل بفرض التأكل والتصدّع غير القابل للترميم على القوات الأوكرانية عبر استمرار العمليات العسكرية بالنسق البطيء لتحقيق القضم الثابت غير المكلف وفرض الاستنزاف على الغرب الذي بات يئنّ من الحمل ومن الأعباء الأوكرانية سواء في ذلك ما تتسبّب به المساعدات العسكرية الى أوكرانيا أو ما ينزل باقتصاده من خسائر من جراء تلك الحرب ومن آثار ما رافقها مما أسمي عقوبات أميركية وأوروبية.
وعلى هذا الأساس تجد روسيا نفسها متخففة من الضغوط التي شاء الغرب أن يراها ترزح تحتها ليحملها على التراجع عن عملياتها وترضخ لطلباته، لكن ما حصل هو أن المواجهة فرضت إيقاعاً متوازناً، الأمر الذي انعكس إيجاباً على الأداء الروسي على الساحة الدولية عامة والشرق الأوسط وفيه سورية خاصة وبذلك ارتسم المشهد الراهن بما يمكن من تحديد خطوطه الرئيسية كالتالي:
أولاً: في ما خصّ أوكرانيا، بات من المؤكد أن لا وقف للعملية العسكرية الروسية قبل استجابة كييف للطلبات الروسية الاستراتيجية والأمنية والسياسية. وانّ العملية العسكرية سيستمر العمل بها على محاور ثلاثة:
ـ الأول المحور البري لاستكمال السيطرة على الدونباس مع المحافظة على حرارة الميدان بما يرهق كييف.
ـ والثاني المحور البحري/ البري على مساحة الشريط الساحلي من ماريوبول شرقاً الى أوديسا غرباً وشاملاً ميكولايف لتأمين عزل أوكرانيا عن المياه، وتأمين الاتصال البري بشبه جزيرة القرم.
ـ والثالث جبهة العمق الناريّ للحدّ من إمكانية ترميم القوات أو القدرات العسكرية او الاقتصادية الأوكرانية.
ثانياً: على صعيد العلاقات الدولية والتحالفات. ستكثف روسيا تفعيل علاقاتها مع الحلفاء خاصة المعلنين منهم من الصين الى إيران وسواهما مما تثق موسكو بشجاعة حكامها وصدق التعامل.
ثالثاً: على الصعيد الاقتصادي ستمضي روسيا قدُماً في مواجهة الحرب الاقتصادية التي تستهدفها وستراكم النتائج الإيجابية التي حققتها حتى الآن في تلك المواجهة.
رابعاً: أما على الصعيد السوري، حيث إنه خلافاً لما توقع الكثيرون فإنّ روسيا لن تتراجع عن الدعم الذي تقدّمه لسورية ولم تعد الآن بحاجة لإعادة الانتشار العسكري الذي يخفي انسحاباً من سورية، بعد ان اطمأنت الى دوام امتلاكها زمام المبادرة في أوكرانيا، وهذا ما سيمكّنها من توجيه الرسائل الواضحة لكلّ من أميركا وتركيا و«إسرائيل» وهو ما سينعكس إيجاباً لصالح سورية فيشكل من شأنه التأثير على قرار العدوان التركي الرامي لاقتطاع أرض سورية تحت عنوان «المنطقة الآمنة» وعلى السلوك العدواني «الإسرائيلي» أيضاً في الميدان السوري، خاصة بعد أن أدخلت منظومة «أس 300» في الخدمة.
بيد أنّ هذا الأمر مع ما فيه من إيجابيات ظاهرة لصالح روسيا وحلفائها، إلا أنه لا يتضمّن شيئاً مؤكداً يتصل بتوقع إنهاء العملية الخاصة في أوكرانيا، الأمر الذي سيترك العالم تحت وطأة سلبيات المشهد بسبب التعنّت الغربي والإصرار الأميركي على استمرار الحرب وتحويلها الى حرب استتراف روسيا كما سبق وذكرنا، مع ما يرافقها من تدابير إجرامية فرضت وأدّت الي ما أدّت إليه من أضرار لحقت بالاقتصاد العالمي، نعم يستمر التعنت الغربي الأوروبي رغم انّ أوروبا تسير في ذلك على طريق الانتحار والتدمير الذاتي لاقتصادها.