المعادلة المستمرة… منظومة غالبة وشعب مغلوب
علي بدر الدين
منذ «حراك» 17 تشرين الأول عام 2019 وعناوينه وشعاراته ومسمّياته، (انتفاضة وثورة وتغيير) والتداعيات تتدحرج ككرة ثلجٍ أو نار، سلباً أو إيجاباً، أملاً أو ألماً، وباكورتها كانت بإقدام رئيس الحكومة آنذاك سعد الحريري على تقديم استقالة حكومته، تحت ضغط الشارع واستجابة لمطلب «الحراكيين»…
وبعد مناكفات وتجاذبات وشروطٍ متبادلة بين القوى السياسية المختلفة، تشكلت حكومة الرئيس حسان دياب التي لم تعمِّر طويلاً، وقدّم رئيسها استقالتها بُعيْد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020. ثم جاءت حكومة «معاً للإنقاذ» برئاسة نجيب ميقاتي، والتي تحوّلت إلى حكومة تصريف أعمال بعد الانتخابات النيابية التي عبَرت بسلام، وأفرزت «واقعاً» سياسياً ونيابياً جديداً، باعتراف القوى السياسية والحزبية والطائفية والسلطوية المنخرطة فيها، سبقها خروج سعد الحريري وتيار المستقبل من حلبة الصراع المحتدم ومن الاستحقاق الانتخابي.
هذه القوى تحاول اليوم توظيف ما استجدّ من «وقائع وحقائق» وأرقام لمصلحتها، والادِّعاء أمام بيئاتها الحاضنة وجمهورها وبعض دول الخارج الإقليمية والدولية المعنية مباشرة بالملف اللبناني، وتظهر بأنها حقّقت الفوز المبين وكسرت الخصم المفترض، استناداً إلى ما حصدته من أرقام في صناديق الاقتراع، ومن نواب جدد وقدامى يتجمّعون في الكتل النيابية، وسيكون لهم وزن وشأن كبيرين في مجلس النواب، ودور في قلب الموازين وتغيير المشهد القائم والقاتم السائد منذ أول انتخابات حصلت بعد اتفاق الطائف، الذي لم ينفّذ منه إلا ما يناسب قوى المنظومة، ويخدم مصالحها ويؤبِّد استمرارها في السلطة إلى ما لا نهاية، وهي نجحت فعلاً وحققت ما أرادته لغاية الانتخابات ضمناً، وإنْ أدّت سياساتها المُعتَمَدة و»إدارتها» غير السوية لشؤون البلاد والعباد، إلى الواقع الكارثي سياسياً واقتصادياً ومالياً وخدماتياً واجتماعياً ومعيشياً ونقدياً.
نعم نعترف، و»الاعتراف سيّد الأدلة»، أنّ المنظومات السياسية المتعاقبة نجحت في إحكام قبضتها وسيطرتها على كلّ شاردة وواردة وصغيرة وكبيرة، وفي ثباتها في الحكم والسلطة والنفوذ والتحاصص والسطو على الأموال العامة والخاصة، وفي حماية مصالحها وثرواتها ومواقعها، ونجحت أيضاً في إسقاط الوطن وانهيار الدولة ومصادرة مؤسّساتها وأجهزتها وإداراتها وتعطيلها، حتى فقدت دورها وهيبتها وثقة المواطنين بها.
الأسوأ الذي أنتجته سياسة القبض على السلطة منذ أكثر من ثلاثة عقود، أنها قوّضت أسس العيش الكريم ومقوماته المتواضعة في الأصل وفي حدّه الأدنى المقبول، وأنها أفقرت الشعب وجوّعته ووجّعته وأذلّته وحرمته من أدنى حقوقه كإنسان، وحوّلته إلى شعب متسوّل يشحذ رغيف الخبز، ومرميّ في الشوارع ينتظر دوره في طوابير الذلّ، ويقف في «الصّف» متراصاً تحت الشمس والمطر للحصول على حاجته من الدواء والاستشفاء والغذاء والمحروقات، هذا إذا كان في جيبه ما يكفي لشراء أقلّ ما يحتاجه، بعد أن سلبته المنظومة مجتمعة راتب وظيفته الذي انهار تحت وطأة «مافيات» وتجار السوق السوداء في الدولار والسلع الغذائية والمواد الضرورية.
كان المأمول من الانتخابات النيابية التي حصلت، وما سبقها وواكبها من وعود وشعارات وهمروجات إعلامية سوّقت لها مختلف القوى السياسية والطائفية وما أنتجته من متغيّرات الحدّ الأدنى، أن تنقلب الصورة النمطية المعمول بها على مدى عقود، وأن يتبدّل المشهد نحو الأفضل، وتطوى الصفحات السود، ويتبرّأ البعض من ماضيه الملّوث، ولكن هذا لم يحصل ولن يحصل، لا الآن ولا غداً ولا بعده، لأنّ المنظومة السياسية المؤبدة عادت إلى مواقعها بشراسة أكبر، وقد نكثت بوعودها وابتلعتها وتبرأت منها، والدليل أنّ المشهد الكارثي المأساوي الانهياري الانحداري لا يزال على حاله، ولن تُحدِث نتائج الانتخابات لا خرقاً ولا فرقاً إلا بالشكل والعدد، ولا ما كان متوقعاً إيجابياً منها، لأنّ «بلوكات» المنظومة لا تزال عصيّة، ولأنّ «المكتوب يُعرف من عنوانه»، وقد كشفت عنه جلسة الانتخاب الأولى في مجلس النواب (بعيداً عن من فاز ومن خسر)، حيث تجلّت الاصطفافات ورسمت خارطة طريق متعرّجة وملغومة لما هو آتٍ ولما ينتظر الشعب اللبناني من أيامٍ أسود من العتمة التي تُعمي الأبصار والقلوب وتسدُّ آفاق الإصلاح والتغيير.
بعد تجديد الثقة بالرئيس نبيه بري وانتخابه رئيساً للمرة السابعة لمجلس النواب وانتخاب النائب الياس بو صعب نائباً له وهيئة المكتب، ومعرفة خيارات النواب، الجميع بانتظار رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، لتحديد موعد الاستشارات النيابية الإلزامية لتسمية الرئيس المكلف لتشكيل الحكومة، الذي ستعترضه الكثير من ألغام التعطيل والتجاذبات والكيديات والشروط المتبادلة والانتقامات، من قوى سياسية مختلفة، ما يؤشّر إلى أنّ الفراغ الحكومي سيكون سيّد الساحة، ويوحي بأن لا أمل ولا ثقة بجدية المنظومة وخارجها لتاريخه، والأيام المقبلة كفيلة بكشف المستور.