أولى

مغامرة الدخول في الفراغ الحكوميّ

 د. وجيه فانوس*

أذاعت دوائر القصر الجمهوريِ اللبناني، بمجرد إعلان وزارة الداخلية مؤخراً نتائج الانتخابات النيابية، وما لحق هذا الإعلان، وفاقاً للدستور، من تقديم الحكومة استقالتها؛ تطلع فخامة رئيس الجمهورية، إلى أن يتمّ تشكيل الحكومة العتيدة، بأسرع وقت ممكن. وكان قد بدأ يتفشى، حتى من قبل إجراء هذه الانتخابات، عديد من التحليلات، التي يُشار فيها إلى تعقيدات سياسية محتملة، قد تعيق تشكيل حكومة ما بعد الانتخابات النيابية؛ مما يقود إلى الاستنتاج بحصول إمكانية لوقوع البلاد في أزمة فراغ حكومي. الملاحظ، أنّ هذه التحليلات بدأت تطفو على سطح الأحداث، راهناً؛ وكأنها تمهيد لواقع قد لا يجد بعضهم منه ملاذاً. لعلّ هذا الفراغ المقصود، ههنا، مطلب يحتمي هذا البعض، بطموحات معينة له، خلف إمكانية حصوله؛ خاصة أنه فراغ قد يحصل في مرحلة تتزامن، بعد زهاء أربعة أشهر من اليوم، مع موعد انتهاء الولاية الرسمية لوجود فخامة الرئيس في منصبه. يشير بعض أصحاب هذه التحليلات، إلى إمكانيات متنوّعة في هذا السياق؛ منها اجتهادات تتناول إمكانية الدخول في فراغ رئاسي؛ الأمر الذي يعني بقاء الحكومة الحالية المستقيلة، بصفة حكومة تصريف الأعمال؛ وثمة من يرى أنّ في هذا ما قد يقف حاجزاً دستورياً يفرض على رئيس الجمهورية عدم تسليم مهامه إلى هذه الحكومة، تحديداً، إذ إنّ المادة 62 من الدستور تنص على أن تناط صلاحيَّات الرَّئيس، في حال انتهاء الولاية، وكالة بمجلس الوزراء؛ الأمر الذي يفرض أن تكون صلاحيات مجلس الوزراء كاملة، وليست مجرد صلاحيات محصورة بتنفيذ مقيّد ومحدود لتصريف الأعمال. قد يكون لأصحاب هذه التحليلات ما يسوغ استنتاجاتهم هذه، منطقياً؛ غير أنّ في مثل هذا التوجه ما يطلّ برأسه، ضمن هذا السياق، ملقياً بظلال تنذر بشرور لا طاقة للبلد على تحمّلها، من جهة؛ كما وقد يكون، من جهة أخرى، من العوامل التي ستتكالب في ما بينها على هدم كثير من معالم الوحدة الوطنية بين المناطق اللبنانية وناسها.

يؤكد الواقع المعيش، أنّ الإدارات الرسمية في لبنان تعاني من وهن يطال كثيراً من مجالات عملها وأداء العاملين فيها؛ وهذا يعود إلى أسباب عديدة، من بينها عدم تمكن العاملين في هذه الوزارات من تأمين حتى كلفة وصولهم، طيلة أيام العمل الأسبوعي، إلى مراكز عملهم. وتعاني هذه الإدارات، في الوقت عينه، ضعفاً متنامياً في إمكانيات القيّمين عليها تأمين كثير من اللوازم الأساس لأعمالها؛ وذلك جراء قلة ما في بنود ميزانياتها من أموال مخصّصة لهذه الأمور، ولا يختلف هذا الحال في مجالات القوى الأمنية بصورة عامة. يُضاف إلى كلّ هذا، الاضطراب العام، والظاهر بوضوح لا لبس فيه على الإطلاق، الذي يعانيه المجتمع اللبناني، في مختلف مناطقه ومع سائر التنوّعات السياسية لناسه، جراء تعذر القدرة العامة على تأمين الوقود والكهرباء، ناهيك بقضايا توفير الطبابة والاستشفاء والدواء والخبز والكفاية من الطعام؛ ومروراً بمعوقات استتباب الأمن والاستقرار العام. ومن الجلي أنّ جميع هذه الأمور تتطلب معالجة مجدية من قبل حكومة، قادرة على اتخاذ قرارات حاسمة والعمل على تنفيذها، من دون أيّ تعويق أو تسويف؛ وذلك بحكم كون السلطة الإجرائية مناطة، بموجب المادة 65 من الدستور، بمجلس الوزراء. إنّ هذه المعالجة المطلوبة، على تعدّدها وتنوّعها وتعقيدات تنفيذها ووعورة العمل عليها، ستكون، واقعا، من الأمور المتعذرة مع حكومة تصريف الأعمال؛ إذ لا يحقّ لمجلس الوزراء فيها أن يجتمع، كما يفقد وزراؤها إمكانياتهم المعتادة في ممارسة الصلاحيات التي تنيطها بهم القوانين.

لعلّ هذا الواقع الصعب ما دفع بدولة الرئيس تمام سلام، إلى إصدار تذكير بشأن محدوديَّة الصلاحيات الممنوحة للوزراء في حال تصريف الأعمال، عبر التعميم رقم 20/2016، المنشور في الجريدة الرسمية عدد 54 تاريخ 10/11/2016؛ وذلك عند تحوّل حكومته إلى مرحلة تصريف الأعمال، ونتيجة ما واجهته هذه الحكومة من صعوبات ومعوقات دفعت ببعض وزرائها إلى محاولات تخطيها باجتهادات تنفيذية معينة. ويبرز، ههنا، موضوع الصحة الدستورية لتكليف مجلس وزراء حكومة تصريف أعمال مجتمعاً، بصلاحيات رئيس للجمهورية؛ في وقت لا يحق فيه لهذا المجلس الاجتماع دستورياً؛ وهذا شأن سيقود إلى العيش في إشكالية وطنية كبرى؛ وهي إشكالية لها أن تثير كثيراً من الحجاج والجدال والنقاش وعدم الاتفاق؛ بل ولا سبيل مقنع لقيام إجماع سياسي ووطني على القبول بها. ولقد اعتاد اللبنانيون، مؤخراً، في محطات عديدة لتشكيل الحكومات وفاقاً للدستور الحالي، الطول الزمني لأعمار حكومات تصريف الأعمال؛ ومن هذا ما شهدته البلاد، بوصول بعض المراحل الزمنية لتصريف الأعمال، بين سنتي 2005 و 2016، إلى 100 يوم؛ ثم تمادى الأمر، لاحقاً، وصار سنة كاملة، إبان مساعي تشكيل حكومة الرئيس تمام سلام، سنة 2014؛ وكاد أن تجاوز الحال السنة، مع ترؤس الرئيس حسان دياب حكومة تصريف أعمال، من شهر آب 2020 حتى شهر أيلول 2021.

بداية، ما من وطني، ذي عقل أو حسن بصيرة، يقبل باحتمال أن تستمرّ أحوال البلاد على ما هي عليه، من وهن إداري متنام وسوء مآل اقتصادي واجتماعي وأمني متصاعد، إلى ما لا حدود لهما؛ ولعلّ في هذا ما يدفع إلى غلبة للمنطق الطَّبيعي والعفوي القائم على أنّ الحياة لا بدّ أن تستمرّ، أياً كانت أحوالها ومآلات ناسها ضمن هذا الاستمرار. يشير المنطق العملي، ههنا، إلى أنه لا بدّ لهذا الاستمرار، بحكم طبيعة وجوده وأحوال فاعليته، من أن يفرض تنظيماً ما لوجوده؛ وأنّ هذا التنظيم لن يكون، على الإطلاق، خارج احتمال أن يكون آنياً، أو عشوائياً، أو انتهازياً، ومما لا شك فيه، أنه تنظيم قد يتأثر بأجواء سياسية وقدرات ذاتية. واقع الحال، إنّ في هذا جميعه، ما قد يذكر بما وصل إليه لبنان، من مساع لتنظيم إدارات مدنية وأمنية وسياسية ومناطقية، إبان ما عاشه ناسه من استحكمت أوضاع للاقتتال الأهلي بين بعضهم وبعضهم الآخر، سنتي 1975 و1990.

لن يمكن التغاضي، ضمن هذا السياق، عن حقيقة أمر واقع قوامه أنّ كثيرين من أعداء لبنان، يهدفون دائماً، وحرصاً منهم على مصالح استراتيجية لهم، إلى الإطاحة بأيّ نجاح لأنموذجه التعايشي الحضاري؛ ويسعون، تالياً، إلى إعاقة تنامي قدرات العطاء الإيجابي والإبداع الفكري والعلمي لكثير من ناسه. ولا بد، لكلّ ذي بصيرة، يؤمن بضرورة الوحدة الوطنية الجامعة للبنانيين كافة، من أن يؤكد أنّ ثمة، عديداً من القوى التي ما برح ناسها والجهات التي تقف وراءهم، يتربّصون باللبنانيين شرور الانحلال السياسي والتشرذم الوطني والتصارع الداخلي، عبر تشجيع ما قد يضطر إليه ضعف الدولة من بلبلة في إداراتها وتقويض يطال إمكانياتها المالية وتبديد يلحق بقواها الاجتماعية وتشتيت قد يطال قدراتها الأمنية. وقد لا يكون من المستبعد على الإطلاق، والأوضاع السياسية الراهنة على ما هي عليه من تأزم وتخاصم وتنافر وتناتش، من أن تسعى هذه المجموعات إلى استغلال كلّ هذا، في دفع إلى محاولات التقسيم المناطقي والتفتيت الوطني والتفريق الاجتماعي.

إنّ واقع التجارب الوطنية الراهنة، والتي تكاتفت في ما بينها جراء تجارب الفرقاء المتخاصمين والمتقاتلين من قبل، والتي تبلورت عبر ما بات يُعرف باتفاق الطَّائف سنة 1989، والذي تعدَّل الدستور اللبناني تالياً، بناء على عديد من المفاهيم التي أقرّها اجتماع القوى اللبنانية عبر هذا الاتفاق، ما برحت تؤكد بؤس أيّ تقسيم طائفي سياسي مناطقي تفتيتي يطال لبنان؛ وتشدّد على الخسائر الوطنية الكبرى التي تنتج عن اتّباع هذا المنحى، الذي ما انفك جميع اللبنانيين، وبشهادة الانتخابات النيابية التي حصلت مؤخراً، لا يرون فيه أيّ خير. ولذا، وحتى لا «تقع الفأس في الرأس»، كما تذكر المقولة الشعبية، التي يعرفها اللبنانيون جميعاً ويتداولونها في ما بينهم عند تدبّر مواجهاتهم للملمات الكبرى، فإنّ الوضع الراهن لا يمكن أن يتحمّل، أيّ بذخ في التذاكي السياسي أو ترف في إثبات الوجود الذاتي لجماعة على سواها، أو رفاهية تفضيل المصلحة الشخصية لهذا أو ذاك من أصحاب القرار. إنّ الوضع الوطني الراهن، بكلّ ما له وعليه، يحتاج فقط إلى تشكيل حكومة مهمتها الأساس حفظ ما تبقى من الوطن والتمسك به؛ والعمل، خلال ذلك، بكلّ إخلاص ودأب، لتيسير المساعي لانتخاب رئيس جديد للجمهورية في الأشهر القليلة المقبلة؛ وقد يكون أيّ خروج عن هذا المسار، بداية منذرة بخطر الدخول في مسار للوطن عظيم الاضطراب مرفوض النتائج من جميع الوطنيين اللبنانيين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*رئيس ندوة العمل الوطنيّ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى