لبنان بين التنافس السياسيّ الديموقراطيّ ومجالات السعي الفعليّ إلى تحقيق الوحدة الوطنيّة
د. وجيه فانوس _
انهمك أعضاء المجلس النيابي المنتخبون مؤخراً، من أخمص أقدامهم وحتى أعلا ما في رؤوسهم، القدامى منهم كما المخضرمين، ومعهم الجدد الذين يدخلون تحت قبة المجلس حاملين أمانة رؤية جديدة أو متجدّدة من جماهير طالما هتفت متظلمة وغاضبة وثائرة، يتنافسون في ما بينهم لوصول من يحصل على أعلى عدد من الأصوات إلى رئاسة لجنة نيابية، أو أن يكون في عداد أعضاء إحدى هذه اللجان. غني عن أيّ بيان، أنّ هذا التنافس، والذي استغرق يوماً برلمانياً ووطنياً كاملاً وقد يستغرق أكثر من هذا اليوم، حصل في اليوم التالي تماماً لوصول سفينة ENERGEAN POWER إلى حقل “كاريش”؛ المتنازع عليه بين الدولة اللبنانية ودولة الكيان الصهيوني المحتلّ لأرض فلسطين.
مما لا شك فيه ولا جدال، أنّ التنافس الديموقراطي بين السياسيين، خدمة منهم للشأن العام الذي يسعون إلى تمثيله والنهوض به، يبقى من الأمور التي تحتفل بها الحياة السياسية العامة، ويرتاح إليها القائمون عليها؛ أكانت النتيجة بالفوز أو بالخسارة، فالأمر يبقى ضمن «اللعبة الديموقراطية» واحترام أصولها. هي ذي حقيقة الوعي الديموقراطي؛ وهكذا يكون التعامل الديموقراطي الحق؛ قبول لرأي الأغلبية وركون إلى ما تحكم به؛ ولا بأس من أن يفخر اللبنانيون بما حصل. ولعلّ بإمكان المرء، والحال كما ظهر مؤخراً في أروقة المجلس النيابي، وبهمة جميع أعضائه، تأكيد على الامتلاء السياسي اللبناني بالروح الديموقراطية، ووعد أزهر بكثير من الخير السياسي، لكلّ صاحب إيمان بفاعلية الديموقراطية وعظمتها، في بناء الدول وتعزيز ناسها.
قد يكون هذا التصوّر، من جهة المنظور السياسي، صحيحاً أو ربما مبالغاً في بعض جوانبه؛ لكن من جهة أخرى، هل يمكن لهذا الحال السياسي، من العيش الراهن في لبنان، أن يكون متوافقاً وصحيحاً وواقعياً وصحياً، من الجانب الوطني الذي يواجه فيه لبنان الوطن، وبكلّ تحدّ وصفاقة وعهر، غزواً «إسرائيلياً» مباشراً، ومن دون أدنى مواربة، لحقل كاريش للغاز الطبيعي والنفط؛ وهو الحقل الذي ما برح محلّ نزاع محتدم، محلياً ودولياً وأممياً، بين لبنان وسلطة هذا الكيان الغاصب؟ إن لبنان، في هذه الحال، يواجه اعتداء فورياً وواضحاً، لا لبس فيه على الإطلاق، من كيان أجنبي عدو غاصب؛ وهذا يجعل من هذه المواجهة أولوية وطنية، تتجاوز في أهميتها جميع ما عداها من الأولويات؛ وهي أولوية تفرض إعلان حال طوارئ وطنية قصوى، على مختلف الأصعدة السياسية والعسكرية، بما في ذلك بطلان أيّ تنافس سياسي ممكن سعياً إلى ترؤس لجنة نيابية أو الدخول في عضويتها.
ثمة فصل نوعي بين السياسي والوطني؛ وهذا ما تتفق على التنظير له وفيه وتأكيده دراسات أكاديمية عديدة؛ والأكثر أهمية، ههنا، أنّ ممارسات عملية، شديدة التنوّع وربما التباين في ما بينها، لا تفتأ تؤيد هذا الفصل؛ مؤكدة له، وشاهدة، على سلامة منطقه. واقع الحال، إن ما هو سياسي، بطبيعة وجوده وجدوى فاعليته، يظلّ شأناً تنافسياً؛ تنهض به مجموعات تتبارى في ما بينها لتحقيق ما تراه كلّ واحدة منها الأفضل للوطن، أو للمؤسسة أو للعائلة أو حتى لأيّ مشروع مشترك في ما بينها. أما ما هو وطني، فأمر مختلف إلى أبعد حدّ عن ما هو سياسي؛ إذ الوطني، ههنا، ينبثق من الوطن وينهض على الوحدة الوطنية، ولا يكون سوى خدمة عملية ورؤيوية مشتركة، لصالح الوطن برمّته، وليس لصالح جماعة من ناس الوطن من دون سواهم، أو منطقة من مناطق الوطن من دون غيرها. ومن هنا، فإذا ما كان «السياسي» وجود تنافس، بحكم طبيعته ومجالات فاعليته؛ فإنّ «الوطني» وجود إجماع وتلاقٍ ووحدة، بحكم جوهر تمكنه من الجمع والتوحيد والتثبيت على مستوى الوطن طراً.
يعاين لبنان، منذ عدة عقود من الزمن، تنافساً سياسياً حاداً، بين كثير من أصحاب النفوذ والساعين إلى السلطة على أرضه وبين ناسه؛ وثمة من قد يرى أنّ ما من لبناني إلا وهو منغمس، حتى أعمق ما في كيانه، في شأن سياسي ما. يرى بعض الدارسين الاجتماعيين، أنه قد يصعب، وربما يستحيل، أن يكون في لبنان من هو حقاً بعيد عن أيّ انتماء سياسي، أو توجه سياسي أو حتى ميل، تجاه فريق من السياسيين في مواجهة سواه. ويشهد لبنان، كذلك، ومنذ عقود مديدة من الزمن، أهوالاً في مجالات الشأن الوطني، وعياً وعملاً ونتائج؛ لعلّ من أبرزها ما تعانيه الساحة الوطنية، من انقسام وطني، كبير وخطير، حول مقولة ثلاثية «الشعب والجيش والمقاومة»؛ ولا يمكن لأيّ ذي بصيرة أن ينكر ما يشهده البلد من أمور جراء هذا الانقسام. ويعيش لبنان اليوم، كذلك، وضعاً سياسياً ووطنياً متشابكاً في آن؛ بل هو وضع يمتد إلى أعماق فائقة الغور وعظيمة الفاعلية في بناء المقبل من أيام الوطن وناسه والمستشرف لآفاق الأجيال المقبلة من أبنائه. ثمة وضع اقتصادي واجتماعي وأمني ومالي شديد الاضطراب والقلق والتنامي في آن؛ وهو وضع ما انفكّ يمعن في البلد تفتيتاً وإفقاراً، محفزاً أعداداً هائلة من ناسه، والشباب منهم خاصة، على الهجرة الدائمة عنه. ولقد أكد أصحاب دراسات عديدة ومتنوّعة من دراسات الجدوى الاقتصادية، أنّ في ما يمكن أن يكتنزه حقل استخراج الغاز الطبيعي والنفط، الموزعة ضمن قطاعات «بلوكات» محدّدة، ضمن الحدود الإقليميّة البحرية للبنان، ما يشكل مصدراً لثروات جمة بإمكانها فكّ عثار العديد المتنوع والمتشابك من القضايا العالقة والمـتأزمة التي ما برح يعانيها لبنان، اقتصادياً واجتماعياً وما برح يتخبّط في دياجير بؤسها لا يلوي على منفذ. من هنا، لا يبقى الغزو الحالي، لحقل كاريش للغاز الطبيعي والنفط، مجرد اعتداء يمكن التعامل معه بطريقة أو أخرى؛ بل يصبح، وبكلّ وضوح وجلاء وتشدّد وتعاظم وتمكن، وبكلّ جبروت وجرأة وجهد، قضية الوطن الكبرى، التي يهون أمام الذوْد عن حياضها كلّ شأن سياسي مهما عظم، وكلّ تصور لمصلحة، مهما كان ممعناً في الرأي السياسي أو ضالعاً في علاقات دبلوماسية. يكتنز حقل كاريش، لاستخراج الغاز الطبيعي والنفط، ما يكتنزه من ثروات، على عمق قد يصل إلى أربعة آلاف متر تحت سطح البحر، وهو حقل متنازع عليه بقوة ووضوح بين لبنان والكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين؛ وطالما هو موضوع متنازع عليه، وما برح موضوع التنازع هذا محلّ تفاوض دولي قائم، فإنَّ من الطبيعي أن استخراج أيّ جزء من هذه الثروة، ولو كان من منفذ قد يقع خارج الخط 29 الذي يقع عليه هذا الحقل، فإنّ هذا الاستخراج ليس سوى سرقة دولية موصوفة ومكشوفة للحق اللبناني الراهن، والمستقبل؛ بل سرقة لا يمكن أن تكون سوى اعتداء خارجي على لبنان، ومخالفة كبرى ومشهودة للقانون الدولي.
إنّ الوضع الحالي، يتطلب التوقف الفوري عن كلّ ما هو تنافس سياسي، أكان على رئاسة لجنة نيابية أو على عضويتها؛ والامتناع عن أيّ تزاحم سياسي لإحلال رأي محلّ آخر، أو معارضة توجه إغضاباً لرأي سياسي سواه؛ فليس الزمن الراهن زمن سياسة؛ إنه الزمن الوطني بامتياز، بل هو زمن الامتحان الوطني الأكبر. لبنان في عين الغصب والاعتداء والنهب؛ فلا بدّ من الوقوف الصلب في وجه كلّ هذا، ولا يمكن لهذا الوقوف إلا أن يكون سافراً وصارخاً وقوياً ومتشدّداً ومتمكناً؛ أما الباب الأساس للدخول في هذا المجال، فيكون بتثبيت المرسوم 6433؛ وفي هذا التثبيت مربض أساس وأصيل للمحط العملي والحقيقي والناجع الحاسم للاختبار الوطني لمقولة «الشعب والجيش والمقاومة»؛ وليكن هذا الوقوف الخطوة الأساس لبناء لبنان الحر الأبي والقوي الغني والمعطاء. ليتفق اللبنانيون، بكلّ ما في أعماقهم من جوهر وطني وبكلّ ما في مداركهم من استيعاب للوطنية، كيف يمكنهم توفير خلاص ناجع ومنتصر، من هذا الاعتداء الغاصب الغاشم، الذي ينتزع خيراتهم ويسرق ثرواتهم ويسطو على حقوقهم ويسلب منهم آمالهم؛ وأن يكون هدفهم الوطني الأول والأساس والأخير، تأمين العيش السليم لذواتهم، وفتح آفاق الحياة الرغيدة للأيام المقبلة من زمانهم، والحفاظ على الثروة الوطنية المعطاء من شباب الوطن وعقولهم المبدعة.
أم ترى أنّ كثيراً من الناس، في هذا البلد، يعانون عمق انعدام المسوؤلية الوطنية الجامعة؛ بتخليهم عن الجوهر الوطني الأساس لمعنى الثروة الوطنية، وإهمالهم المتعمّد للمفهوم الوطني البنّاء للموارد القومية، وتجاهلهم الإرادي للمقولة الوطنية القائمة على حقوق الأجيال القادمة؛ ولذا، فهل ستكون هذه الثروة المكتنزة، من الغاز الطبيعي والنفط، في أعماق المياه الإقليمية، نقمة إضافية على هذا الشعب؛ ويضيع عندها الذهب الأسود غداً، كما تضيع اليوم أموال المودعين ومعها الذهب الأصفر المفروض أنه أمانة العهود والأجيال لضمان سلامة النقد اللبناني؟
كفى سياسة الآن، بكلّ ما في هذه السياسة من تنافس وألاعيب؛ فلبنان اليوم، واليوم تحديداً وبكلّ تأكيد، في حاجة إلى كلّ ما هو وطني جامع يتحد اللبنانيون حوله؛ فالوطن في هول أخطار مزيد من الفقر والبؤس والزوال؛ إنّ للسياسة أوقاتها وموضوعاتها ومجالاتها، وهي موضوعات ومجالات وإنْ كان لا بدّ منها، غير أنها ليست لليوم على الإطلاق.