مات ولم يوقّع…
معن بشور
كنتُ بضيافة نادي الشقيف في النبطيّة أناقش مع الصديق والكاتب المرموق جهاد الزين كتاب الإعلامي الراحل سمير شاهين حين وردنا نبأ رحيل الرئيس حافظ الأسد، فأوقفنا الندوة لنعود إلى بيروت حيث جرى اتصال هاتفيّ بي من قناة «أوربت» التي كانت تستضيف يومها المفكر المعروف الراحل الأستاذ منح الصلح وسألني المذيع: هل من تعليق على خبر وفاة الرئيس حافظ الأسد؟
أجبته بكلمة واحدة: «مات ولم يوقّع…»، في الصباح كانت تلك الكلمة عنوان جريدة «النهار» اللبنانية، وسط مظاهر حزن عميق في لبنان شارك فيه معظم اللبنانيّين، قادة ومواطنين، بمن فيهم من أبدى حزنه مجاملة ومسايرة، وكثير ممن أدرك حجم الخسارة التي حلّت بسورية ولبنان والأمة العربية برحيل قائد تميّز بالحكمة السياسية والصلابة المبدئية مكّنته من أن يلعب دوراً هاماً في حياة بلاده وأمته وينتزع احترام كثيرين سواء مَن كان يوافقه الرأي أو من كان يعارضه.
في الطريق إلى بيروت عادت بي الذاكرة الى نيسان 1965 حيث كنت أحضر وأنا ابن العشرين من العمر المؤتمر القومي لحزب البعث الذي كان يضمّ مؤسّسي الحزب وقادته في سورية والعراق قبل الانقسام المشؤوم بين دولتين شقيقتين كان العرب جميعاً، والبعثيون خصوصاً، يتطلعون الى وحدتهما كحجر الزاوية في مواجهة التحديات التي تواجهها الأمة.
كنتُ في ذلك المؤتمر «مشاغباً» ـ كما وصفني أحد الزملاء ـ لكثرة ملاحظاتي النقدية، ولكنني في الاستراحة فوجئت بيد ترّبت على كتفي وإذ بها يد اللواء حافظ الأسد قائد سلاح الجو السوريّ آنذاك ويقول لي: «لقد ذكّرني «شغبك» هذا بأيام الدراسة وأتمنّى أن تحافظ على هذه الروح النقديّة العالية».
تركت تلك الكلمات أطيب الأثر في نفسي ودفعتني مع مجموعة من الرفاق أبرزهم المناضل والكاتب والسفير الراحل جهاد كرم أن ننتخب «أبا سليمان»، كما كانوا يسمّونه، عضواً في القيادة القوميّة، خصوصاً بعد أن لاحظنا ارتياحاً لاسمه عند أمين عام الحزب ومؤسّسه الراحل الأستاذ ميشيل عفلق.
ومرّت الأيام والسنون، وافترقت الدروب الحزبية إلى أن أصبحت خارج تنظيمات الحزب عام 1975، لأواكب مسيرة الراحل الكبير ملاحظاً القدرة العالية التي امتلكها في الموازنة بين مهمات البناء القطريّ في بلده، والتزامات العمل القوميّ خارجه، لا سيّما في الصراع الوجودي الذي تخوضه أمتنا ضدّ العدو الصهيوني، لا بل في ذلك النهج الذي جمع بين التزام بالثوابت وبين مرونة في التعاطي مع الواقع، وفي تلك القدرة على الحوار الطويل حتى مع من يختلف معه في الرأي والرؤية، كما في رحابة الصدر التي كان يمتلكها والتي كانت تجعله يستمع حتى الى الانتقادات والملاحظات ممن يجتمع بهم.
الموقف من الرئيس حافظ الأسد، كالموقف من كلّ القادة والرموز، يتوزّع بين الإعجاب والانتقاد، لكن أحداً لا يستطيع أن ينكر أنّ الرجل جعل من بلده دولة رئيسية في الصراع الدائر في المنطقة، وليست ساحة من ساحات الصراع كما كان الحال قبله.
وشاءت الأقدار أن يرحل الرئيس حافظ الأسد بعد عشرين يوماً من تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الصهيونيّ على يد مقاومة باسلة لا يستطيع أحد أن يتجاهل دور سورية، والرئيس حافظ الأسد، في دعمها وتحمّل كافة الضغوط لوقف دعمه لها، تماماً كما يتحمّل اليوم الرئيس بشار حافظ الأسد ضغوطاً أشدّ وأعنف للهدف ذاته، لكنه بقي وفياَ لمبادئه ولتربيته الوطنية والقومية والعائلية أيضاً…