لبنان يُطْعَنُ بالوسيط…
} حيّان سليم حيدر
يسألني البريء، وهو يعلم الجواب، لماذا ركنت منذ فترة إلى زاوية الكتابة الساخرة. وأجاوبه، بكلام اللئيم، أنّني، وقُرّائي، قد مللنا الجدّ، فلم يعد للكلمة من معنى جاذب في عالمنا هذا فكيف في الجُزيْء المِجْهري من الزاوية المَنْسية من هذا العالم وفيه لبنان. نعم. لقد مللنا التكرار والإسفاف والعبارات المفبركة والجُمَل المنمّقة التي لم تعد تعكس لا جمال الفكرة ولا بلاغة اللغة، وبهذا فضّلنا أن نُقَهْقِهْ ونُقَهْقِهْ ونُقَهْقِهْ. ولكن…
ولكن، ومن وقت لآخر، لا بدّ من العودة إلى موضوع «مصيري»، يُقال، إلى عالم نُبَكْبِكْ ونُبَكْبِك ونُبَكْبِك فيه كلّما طالعنا أحدهم، وما أكثرهم في أيامنا الضائعة هذه، كلما انحدر شعوره الوطني إلى دركه الأسفل، ليذكّرنا أنّ هناك دركاً أسفل منه (الرجاء قراءتها بنبرة القَرَف التي تستحق)!
كُتِبَت هذه المقالة منذ عام ونيّف وكانت، في حينه، آخر مفاوضات الترسيم البحري، وما أدراكم، وكان موقف لبنان الرسمي القديم الجديد المُتجدّد، بالتأكيد على المؤكّد، المجهول يبدو. فمن موقع المُلاحِظ عن بُعد، الجاهل بالتفاصيل الدقيقة، تابعت مسائيات التلفزيونات بعد انفضاض الاجتماع، وكانت، كما اعتادها اللبنانيون، مقدمات الأخبار فكلّ ينضح بإنائه «المستورد» حتى طفوح كيله بروائح العملة الطازجة مع بلوغ الاستسلام حدّ الزُبى. وكان حديث مع صديق إعلامي حثّني على تسطير كلماتي هذه لينشرها، فسطّرتها… ثم أحجمت عن تلوين السطور في ضوء تعاظم أحداث طغت على المنطقة. ولكن، نعود إليها، وقد ناحت بقرب لبنان «حمامة»… أيا «جارتي» الجائرة… إعْلَمي بحالي!
ومن النشرات المنتشرات شرقاً وغرباً، صعوداً وخاصة هبوطاً في مستوى السيادة، أقرأ عليكم بعضاً ممّا جاء، في حينه يومذاك، في حَرْفية إحداها (وبِحِرَفيتها الهادفة أيضاً):
«مرّة جديدة طارت مفاوضات ترسيم الحدود مع «إسرائيل» (وكتبها من دون الهلالين وأيّ رفّة لعين). ومرّة جديدة خسرنا استخراج الغاز ومعه أحلام اللبنانيين بأن يصبح لبنان بلداً نفطيّاً. أيّ تفاوض حول العالم يعتمد الصدقية والشفافية وكلّ تفاوض مبني على عكس ذلك نتيجته الفشل…
«وصل الوسيط الأميركي وفي جعبته ضوء أخضر وإلّا أصلاً لما كانت عادت المفاوضات ولما كان عاد جون دي روشي. الضوء الأخضر كان لبنانيّاً وهو ارتكز على خطوط التفاوض قابله من الجانب الإسرائيلي الموافقة على سلسلة نقاط وعلى أساس موافقة الفريقين اللبناني و»الإسرائيلي» على كلّ ما تقدّم وصل الوسيط الأميركي إلى بيروت دون أن تنقطع الاتصالات بينه وبين اللبنانيين من جهة وبين الإسرائيليين من جهة أخرى».
«إستؤنفت مفاوضات الناقورة الثلاثاء ولكن بعد ساعات طويلة من عرض… رأى الوسيط الأميركي أنّ انقلاباً حصل على الاتفاق وأنّ الجانب اللبناني خرج عمّا سبق واتّفق عليه فاتّخذ القرار».
«الوفد الأميركي يعود بعد ساعات إلى الولايات المتحدة معتبراً أنّه طُعِنَ في الضهر وأنّه لما كان قبل لعب دور الوسيط تحت هذه الشروط. أما جلسة التفاوض التي كانت مفترضاً أن تعقد اليوم فطارت وطيّرت معها صدقية لبنان وأطاحت بالوقت الذهبي لاستخراج النفط والغاز فيما العدو الإسرائيلي ينقّب ويستخرج ويدخل غازه الأسواق العالمية».
حقيقةٌ؟ هكذا كانت الحال؟
وبالتعليق على هذه «النشرة» وبِتَسلسل كلام المذيع قلت في حينه: لا. لبنان لم يخسر في هذه المناسبة بالذات بأن يصبح دولة نفطية. لبنان ممنوع عن النفط، برّاً وبحراً، منذ عقود وأنتم أعلم بذلك والعاملون على حرمانه سيادته على ثرواته كثر ومعروفون، والبرهان؟ إسأل عن مَن عطّل مشروع مياه الليطاني لخمسة عقود من الزمن وما زال، وهو بالصدف، مشروع طاقة أيضاً. ثمّ أنّ الصدقية والشفافية تنسحب على الكلّ وعلى كلّ شيء ابتداءً من الوسيط. والكلّ يعلم ويؤكّد بلا وجل ولا جدل أنّ الوسيط هو نفسه الناطق بلسان العدو لا بل هو العدو بذاته، الساعي إلى الانفراد في التحكّم بموارد الكرة الأرضية منذ ما قبل الحروب العالمية. أما تاريخ مفاوضات العالم وبخاصة مع هذا الوسيط فمليء بالطعن في الظهر، واسألوا عنها مفاوضات فييتنام في باريس التي امتدّت لأعوام تحت وطأة فاوِضْ فاوِضْ ـ قاوِمْ قاوِمْ. علماً أنّ المفاوض الأميركي بات معروفاً بانقلاباته على توقيعه للمعاهدات والاتفاقات الدولية فكيف بالمحلية، فلطفاً «لا يجهلنّ أحدٌ علينا». أما القول بأنّ الوسيط لم يكن ليأتي لولا الإتفاق المسبق إلخ… فمردود بدليل قاطع أنّ الوسطاء قادمون وذاهبون من دون علم أو إذن أو تنسيق أو حتى سبب في طول السنين وعرض المواضيع ولا مَن يعلم السبب الدقيق لزياراتهم أو الأهداف ولا حتى النتائج. ونقول كيف كان له أن يتفاجأ إذن والنشرة تقول «دون أن تنقطع الاتصالات بينه وبين اللبنانيين». وفي التفاصيل أنّ الأميركي كان يفاوض على كلّ النقاط وكلّ الجبهات وما زال، من النقطة واحد إلى 29 وبينها خط «هُوْفْ» والعين على مُقْتَرَح هوكشتاين وخط قانا المستجِدّ. والوسيط هو الباني الأساس لخطوط حمراء عدّة أوْدَت بالبلاد والعباد وتنذر بالأعظم.
واللافت أنّ الكلام هذا يُقال والوسيط ما زال على الأراضي اللبنانية. أمّا الطعن في الظهر وما كان ليقبل الوساطة فكلام أولاد إذ أنّ كلّ وجميع الوساطات التي حصلت مع لبنان أخذت كمّاً من الردّ والتردّد والتسيّب وما زالت، وحتى إذا كان في جعبته مادةً خضراء.
أما الأفدح هو القول أنّ هذه الجلسة بالذات، وليس كلّ ما جرى ويجري من قِبَل الجميع، هي التي طيّرت معها صدقية لبنان (وليس الودائع)، هذا المجهول المسؤول (الصدقية)، وأطاحت بالوقت الذهبي لاستخراج النفط. ونسأل، على فرضية حسن النوايا هذه، ماذا يُعيق استخراج النفط والغاز في بلوكات عشرة لا خلاف على حدودها غير التحاصصية الميثاقية؟ وهلّا قيّمتم «الوقت الذهبي» الذي مرّ على الأقلّ منذ إنشاء هيئة إدارة النفط منذ العام 2012 وتقاضيها ملايين غير مُبَرّرة من أموال الشعب من دون نتيجة ولا حتى مستقبلية؟ والعدو، يا حضرة المذيع، العدو يُدْخل غاز فلسطين الذي يسرقه في الأسواق العالمية وليس غازه هو.
ولا يسعنا إلّا السؤال: هل هذه محطة إعلامية لبنانية وهل هي حازت على ترخيص من السلطات الرسمية اللبنانية؟ ومَن هي السلطات التي منحت التراخيص ومن يراقب ويحاسب. ولأنّ الجواب معروف سلفاً، ولأنّ لا دولة بالمعنى السيادي المطلوب، فلتُلْغى وزارة الإعلام من أصلها، وهذا ما حصل في بعض دول العالم، وليُلْغى المجلس الأعلى للإعلام صاحب الاختصاص، والأهمّ فلتُلْغى كلّ القوانين ومواد الدستور التي تتكلم أو تنظّم مفهوم السيادة الوطنية. وأختم بالسؤال لو أنّ هذه القوانين السيادية كانت، ولو أنّ كلمة المسؤولين تُحْتَرم فعلاً فهل كان لإعلام كهذا أن ينوجد أصلاً؟
كان هذا ما كتبته في 6 أيار 2021، في عيد شهداء لبنان… الشهيد السيادي، وأحجمت عن نشره لأنّ الأمور ذهبت يومذاك إلى ما هو أفدح وأفضح معاً. لكن، وبغية توسيح إطار الابتسامة على محيّا القارئ، أحيله إلى مقالتي، وفيها ذكرت بعض من هذه الهنّات القاتلات، والتي صدرت في 30 نيسان 2021 تحت عنوان: «هَيْلٌ لأمّة لا تعترف بخطّ هُوْفْ».
واليوم أقرأ في إحدى الصحف «السيادية»: «هل يحقّ للبنان أن يستفيد من ثروته؟»
أمّا «الوسيط النزيه» حاليّاً، فهو من مواليد (1973) تل أبيب من والدين يهوديّين وخدم في جيش العدو وكان مستشاراً لرئيس وزراء الاحتلال السابق شيمون بيريز. هل تقرأ المضمون من عنوانه؟
وأختم. عندما يكون العنوان الرئيس لبعض صحف اليوم يُتَمْتِم على نَغَم: «قبضنا وما قَـ.. بَضْنا، وريتو حدا يِقَـ..بِّضْنا، سبق وقبضنا كتيييير، وهلّقْ ما حدا.. حدنا» ! يُقال إنّ المضمون في قلب العنوان.
وأسال الآن: هل ما زال يصلح هذا للنشر…؟