الحريّةُ ثروةٌ تُجنى مَن حافظ عليها انتصر ومَن خسرها انقهر
} يوسف المسمار*
الحرية طاقة داخلية دينامية ذاتية الحركة. لا تُؤخذُ ولا تُعطى بل تُمارس. لا تُمنحُ ولا تُسلبُ بل تُعاش. لا تُباعُ ولا تُشترى بل تُحيا. إنها إرادة الصراع الذي يجعل الوجود أبهى، والعيش أرقى وتأثير الإنسان في الكون أبقى، ويجعل الحياة أفضل وأسمى.
فمن توهم أن الحرية تُوهب وتُنتزعُ فقد أصابه عمى البصيرة قبل عمى البصر، لأن الحرية كما العبودية بذرة طبيعة فطرية في النفس. فإذا كان الذلُّ طبيعة في النفس فلن يستطيع كل المصلحين في العالم أن يجعلوا من ذلَّ العبودية كبرياءً في النفوس، ولن يقدر كل المشعوذين في الكون أن يمسخوا الحرية ويحوّلوها إلى عبودية مهما اشتدّ بهتانهم واستهول جبروتهم وتفننت وسائلهم وأساليبهم.
الحريّة شيء والحق كواحد من الحقوق الفرديّة او المجموعيّة شيء آخر. الحرية حق والحق هو نقيض الباطل وهو قيمة اجتماعية إنسانية مطلقة لا تموت بموت الفرد ولا تفنى برحيل جيل ولا تسقط بمرور الزمان ولا تُقاس بأمتار وأحجام وتراكم، مهما امتدت واتسعت وارتفعت الأمتار والأحجام والتراكم.
الحرية قوة مناقبيّة أصلية أصيلة في النفس الإنسانية المجتمعية تولد بولادة النفس الأبية وتفرض ذاتها في الوجود أثراً لا يُمحى بذهاب الجسد بل يستمرّ في الأجيال نوراً هادياً لا يغيب، وأملاً مرتجى يطرد كوابيس اليأس عن المحبطين، ويحرّك عوامل النخوة والكرامة الغافية في أعماق أبناء الحياة المتقاعدين فتستيقظ نفوسهم، وتتحرّك ضمائرهم وتنتعش عقولهم، وتختلج وجداناتهم فيثورون على واقعهم المتراخي وعلى كل أمر مفعول بسلبيّة داخليّة ترفض كل استسلام يُفرض عليها من خارج، أو يحاول تجريدها من أصالتها الطبيعية الفطرية التي هي حقيقتها الأصيلة غير الخاضعة لتنازل أو خنوع أو سلب أو اغتصاب.
الحرية تكون بالصراع ولا قيمة لصراع لا يكون بالحرية. الحرية تُجنى بالبطولة المؤيدة بسلامة الوعي، وصحة العقيدة، ومناقبية الأخلاق، وغائية المُثُل السامية ولا معنى للبطولة الا إذا كانت بطولة أحرار وعياً وعقيدةً ومناقبية ومَثُلاً أعلى.
الحرية قوة نفوسٍ من المحال أن يمسّها الضعف، وقوةٌ حرّة لن يشوبها خنوع العبوديّة لكونها الواجب الذي يقهر خمول التخاذل بنظام نموّ الحياة وعياً يكبر، ومعرفةً تتعمّق، وحركة صراع لا تعرف التوقّف، ورقياً يتألق، وتطلعات تسمو وليس لمداها حدود، وممارسة بطوليّة ظافرة.
هذه هي الحرية القومية الاجتماعية التي هي محرّك البشرية للخروج من الظلمات الى النور، ومن الهمجيات الى الحضارة، ومن الأرض الى السماء لتطل من هناك على ما لا يُرى بالعيون بل بالبصائر، وما لا يُسمع بالآذان بل بالمشاعر، وما لا يُدرك بالعقول والقلوب بل بالأرواح التي لا تكون الا حرّة. وترفض أن تكون الا حرّة، لأنها المنطلقة من الألوهة الحرّة التي هي مصدر كلِّ حقٍ وخيرٍ وجمالٍ ومحبةٍ ورحمة، وديمومة كلِّ حقٍ وخيرٍ وجمالٍ ومحبة ٍ ورحمة.
هذا هو معنى الحرية في العقيدة السورية القومية الاجتماعية: وعي وإدراكٌ وصراعٌ وتقدم وجنى.
الحرية هي قيمة اجتماعية إنسانية عليا واجبة الوجود في المجتمع بقوة الحق الذي هو أساس نظام الحياة الاجتماعية الإنسانية الراقية والتي تطارد وتجتث مفاسد الخمول والتخاذل والخنوع والاستسلام والعجز من أجل الأفضل والأبقى.
فمن مارس الحرية وعياً وادراكاً وصراعاً جنى الثروة رقياً، وفَرَض حقيقته على الوجود، واستمر مناراً خالداً للأجيال.
الحرية صراع والصراع ماء حياة البقاء. الحياة بدون صراعٍ حر، لا تسير إلا الى الفناء.
وكما قال عنها فيلسوف الأمة السورية أنطون سعاده «فالحركة القومية الاجتماعية، هي حركة الحرية وهي أيضاً حركة الواجب والنظام والقوة». ولأن الحركة القومية الاجتماعية هي حركة الحرية والواجب والنظام والقوة، فإنه لا معنى لحرية ان لم تكن واجبة، ولا قيمة لواجب إن لم يكن منظّماً، ولا جدوى من نظام إن لم يكن قوة، ولا نفع من قوة إن لم تكن حرة، ولا فعل للحرية من دون حركة، ولا حركة من دون صراع، ولا قيمة للصراع ان لم يكن في سبيل الأفضل. وبانتصار الأفضل يتحقق الخير والعز للأمة بأسرها. ويشمل الخير والعز كل أبنائها.
فالمواطن الفرد الذي لم تبرز وتظهر فيه الشخصية الاجتماعية، ولم يقم بواجبه في المجتمع، ولم يحترم نظام الاجتماع هو الضعيف وليس القويّ، ومن لا يكون قوياً في الحياة لا يستطيع أن يكون حرأ. وثروة الحرية لا تُجنى بالتخاذل والفوضى والضعف بل بالقيام بالواجب واحترام النظام وبناء القوة وممارسة الحرية التي هي نقيض التخاذل والفوضى والضعف والتفلت من قيم الوعي والمعرفة ومكارم الأخلاق.
وكما يترتّب على الفرد ليكون حراً كذلك يترتب على المجتمع. فالمجتمع الذي لم تبرز وتظهر فيه الشخصية القومية الاجتماعية الإنسانية بدلاً من شخصيات الاتنيات والملل والاعراق، ولم يقم بواجبه إنسانياً في العالم في توطيد علاقات التعاون بين الأمم، ولم يحترم نظام علاقات تبادل الاحترام الإنسانية العالمية لن يصبح قوياً مهما توفر له من موارد ووسائل الدمار والخراب التي يرزح تحت تحمّل مسؤولية استخدامها ضعيفاً وليس قوياً حراً لأن ثروة حرية الأمة لا تُجنى بتخاذلها عن توطيد علاقات التعاون بين الأمم ولا بعدم الاحترام المتبادل لحقوق الشعوب، ولا بتبني سياسات العدوان الجنونيّة بحجة حيازتها إمكانيات ووسائل الدمار. فالمجنون مهما كان مفتول العضلات يبقى مجنوناً والحرية نتاج العقل السليم، وليست نتاج الجنون. والأمة المجنونة لن تمحي جنونها وسائل الدمار المتوفرة لها أو تغطي على جنونها وتجعلها أمةً واعية عاقلة. إن الأمة الحرة هي الأمة الفاضلة المحبّة الرحيمة العادلة التي تنوفر نفسيتها وتفيض بكل حق وخير وجمال.
والأمة الحرّة الخيّرة العزيزة لا تريد ولن تقبل الا بأن يفيض الخير والعز على الأمم جميعها لتحقيق العالم الإنساني الجديد الراقي، المُحَصِّن للحياة الراقية بالمعرفة الفاضلة الراشدة للعقل المنفتح المتعمّق، المتوسعة آفاقه باستمرار ليبدع كل عرفٍ جميل، وكل عادة محببة، وكل تقليد نافع، وكل نتاج مفيد للحياة وأبناء الحياة. فالحرية والعبودية قوتان في صدام دائم: الأولى تنشأ بنشوء الإنسان إنساناً فهي في نموّ وتحسّن، والثانية تحدث قوتها باهتراء وتآكل إنسانية الإنسان فتتراكم كالنفايات وتتورم ويزداد حجم تراكمها وتجمّدها خمولاً وتخاذلاً واستسلاماً وخنوعا. وهيهات أن يكون بين حركة الحياة الراقية وجمود التراكم مهادنة أو مصالحة.
الحرية حركة صراع في سبيل الأفضل، والعبودية استسلام خمول للأردأ، والويل للذين يرفضون الصراع ويستسلمون للأردأ خاملين متخاذلين من نور الحرية ونارها.
فنور الحرية يُضيءُ طريق الحياة الراقية بالأحرار وللأحرار، ونارها تحرق نفايات العبودية المتراكمة بعبيدها أمام الأحرار.
الحرية ثروة تُجنى وتنمو بالصراع والبطولة، فمن حافظ عليها ونمّاها ارتقى وانتصر. ومن أهملها وخسرها تخلَّف وانقهر.