بين الانصياع للسلطة وانهيار الدولة الانقلاب هو الحلّ…!
د. كلود عطيّة*
سئل الفيلسوف جان جاك روسو ما هو الوطن؟ فأجاب:
الوطن هو المكان الذي لا يبلغ فيه مواطن من الثراء ما يجعله قادراً على شراء مواطن آخر، ولا يبلغ فيه مواطن من الفقر ما يجعله مضطراً أن يبيع نفسه أو كرامته…
الوطن هو رغيف الخبز والسقف والشعور بالانتماء، الدفء والإحساس بالكرامة…
ليس الوطن أرضاً فقط، ولكنه الأرض والحق معاً…
فإن كانت الأرض معهم فليكن الحق معك…
الوطن هو حيث يكون المرء في خير…
في لبنان، الشعور بالخير بات من الماضي، والانتماء بات إشكالية تضاف الى إشكالية الهوية الوطنية، حيث يشهد لبنان حالياً تفككاً في كل الركائز الوطنية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية منذ أن اقتحمت جائحتا كورونا والدولار الأميركي المجتمع اللبناني المنقسم على ذاته، بعد كل أحداثه التاريخية المؤلمة أصلاً والغارقة في الطائفية والتبعية والعصبيات التي لم يستطع أن يجد لها أيّ عالم أو باحث أو حتى مراكز أبحاث محلية ودولية أية حلول وأجوبة.
ويتجلَّى هذا الانهيار الكبير في انقسام الشعب اللبناني والتحاقه بالشعوب الأكثر تخلفاً على وجه الأرض لناحية تأليه أمراء الطوائف ورجال السياسة والمال والسلطة.. كما هو الشعب الأول في عدم الانتماء والولاء للوطن، بل يعيش في دائرة مغلقة من التبعية إلى الدول الراعية لقطيعه الطائفي أو الفساد السياسي أو مجموعات التحكم بالثروات والمقدرات البشرية والطبيعية.. لنرى الفقدان التام للهوية الوطنية الحقيقية عند معظم اللبنانيين..
أما النتيجة الحتمية لهذا المرض البنيوي في المجتمع اللبناني.. فهو انهيار الدولة من حيث المؤسسات الضامنة لعيش الشعب بكرامة.. ما يفترض انهياراً في الخدمات العامة الأساسية، واستمراراً في الصراعات والحروب والخلافات السياسية الداخلية المُنهكة، وطبعاً نزيف المثقفين والمبدعين والأدمغة وهجرة الكفاءات على أنواعها. وفي موازاة ذلك، من الطبيعي أن تتحمل الفئات الفقيرة والمتوسطة العبء الأكبر للأزمة، وهي الفئات التي وُعدت بالعيش الكريم ولم يكن النموذج القائم يلبّي حاجاتها، إلا في الدولارات التي تصنع الانتخابات لتعيدها إلى الموت وهي على قيد الحياة!
هي حالة الانصياع للسلطة Agentic state فهذا الشعب اللبناني العظيم الذي لم يقدم أي نموذج للنهوض من قبر التخلف والتبعية العمياء.. كما لم يقدم أية محاولة لإلغاء الطائفية بشكلها النهائي.. حيث بقي المدافع الأول الشرس عن طائفته ومذهبه.. وهو نفسه من يتحمّل مسؤولية إنتاج السلطة السياسية الطائفية في لبنان.. وارتضى أن يعيش على فتات رجالاتها الذين يرتدون لباس الطائفية في الصباح ويشربون نخب التحكم بهذا الشعب المسكين في المساء.
لماذا كل هذا الانصياع للسلطة يا شعب لبنان؟ وكل شعوب ألعالم تناديكم من أجل التغيير؟
يرى علماء النفس «أن حالة Agentic state أو حالة الانصياع للسلطة هي مساحة ذهنية ندخلها فتؤثر على طاعتنا. تنطبق هذه الحالة بشكل خاص عندما لا نتفق ولا نحبذ الأمر الذي تلقيناه كثيراً وننبذه، ننتقل لهذه الحالة لإلقاء اللوم على من أعطى الأمر بدل لوم ذواتنا، وكأننا بطريقة ما نتنصل من المسؤولية ومن تأنيب الضمير».
يُلاحظ تطبيق هذه الحالة في الواقع على المجرمين الذين ارتكبوا جرائم فظيعة وشنيعة، حيث لاحظ علماء النفس هذه الحالة من خلال تجارب أجريت على ضباط عملوا تحت قيادة هتلر قديماً. كان هؤلاء الضباط النازيون يبررون دورهم في الجرائم الشنيعة المُرتكبة باستخدام عبارة: «كنت أقوم فقط بما طُلِب مني فعله». وهذا الواقع أيضاً فرض نفسه في المجتمع اللبناني حيث يتغنى أمراء الحرب بجرائمهم ويصفق لهم القطيع لا بل يؤلههم ويعلق في كل مكان صورهم ويدافع عنهم إلى حد ارتكاب الجرائم.
«حالة الانصياع للسلطة» هذه ساعدتهم على الاختباء خلف قادتهم وجعلتهم يعتقدون بشدة أنه لا يمكن لومهم على الرغم من ارتكابهم جرائم وأفعالاً بشعة ووحشية، إذاً ومن خلال إقناع أنفسنا بأننا لسنا من يتحمل المسؤولية فإننا على استعداد لارتكاب أكثر الجرائم بشاعة وشيطانية.
لكن، انطلاقا مما سبق، هل كنا مهيئين نفسياً للطاعة، لماذا لا يوجد من يعصى الأوامر ويخترق القوانين؟
في هذا السياق، من قال إن الشعب اللبناني لا يعصى الأوامر ولا يخترق القوانين؟
المواطن اللبناني يعيش يومياً على اختراق قانون السير، ويشتهر برمي الرصاص العشوائي كما رمي النفايات من نوافذ السيارات، كما هو المسؤول الأول عن التعديات على الأملاك العامة والبحرية والطرقات والأسواق التجارية وغيرها. وهو من أكثر شعوب ألعالم التي تحمل بطاقات أمنية ومخابراتية وتسهيل مرور ورخص لحمل الأسلحة وغيرها، ما يثبت نظرية الانصياع للسلطة وأزلامها.
يشير فوكو (Foucault) في الحديث عن السلطة التأديبية إلى أن الانصياع يحدث تحت تأثير قوى خفيّة وعلاقات معقدة، وبذلك فإن السلطة تمارس من خلال عمليات لا من خلال أوامر مباشرة، عبر تقنيات خفية يمكن أن تغير من الفرد نفسه في نهاية المطاف.
المواطن اللبناني الذي شوّه أرض لبنان وتعدى على مؤسساته وزرع فيها الفساد الإداري وعلم العالم فن التزوير والسرقات والرشوة، لم يكن ليفعل ذلك لو لم يكن أداة بيد السلطة الفاسدة نفسها.. والسلطة السياسية التي تمعن في فسادها واختراقها كل القوانين والمواثيق الحقوقية والتشريعية والإدارية والسياسية الدولية، لم تكن لتفعل ذلك لو لم تكن أداة بيد الدول التي تستثمر في فسادها وتحقق مصالحها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية..
يبقى الحلّ في تغيير كلّ هذا النظام السياسي بعد الانقلاب عليه بالقوة من كلّ لبناني مقاوم ومثقف ومؤمن بعقيدة الحياة والنهضة… فمن قاتل العدو اليهوديّ وانتصر عليه بإمكانه أن يقاتل أعداء الداخل اللبناني الذين حوّلوا لبنان الى مزرعة للطائفية والفساد وتدمير الإنسان. كما بإمكانهم فرض سلطتهم وقوتهم الأخلاقية والنهضوية والثقافية في التغيير الحقيقي لهذا البلد وتحرير شعبه من عبودية الطائفية والطائفيين.. كما من عبودية التبعية والاستزلام من أجل لقمة العيش.. لأن النهضوي المقاوم لا يعيش الا بالعز ومن أجل ذلك عليه أن يقف وقفات عز مع أبناء وطنه عله ينتشلهم من هذه الفوضى الروحية التي أفقدتهم الهوية اللبنانية وحوّلتهم الى عصابات إجرامية تسيطر على كل الدوائر والمؤسسات العامة والخاصة!
فكرة الانقلاب على هذه السلطة لم تأت من فراغ، فالحصار السياسي والاقتصادي والمالي على لبنان الذي تنفذه الولايات المتحدة الأميركية لا يمكن أن يتم فكه عبر ثورات شعبية ملوّنة قد تكون مدعومة أميركياً أصلاً بعد نجاح تجربتها في عشرات الثورات الملونة في العالم وآخرها ما يسمّى بالربيع العربي.. بالإضافة إلى ثورة الأرز في لبنان وتحركات ١٧ تشرين التي فضحت الأكثرية المطلقة من الشعب اللبناني الذي لا يهمه إلا تنفيذ أجندات سياسية تتعلق بنزع سلاح حزب الله بالدرجة الأولى وتحويل لبنان الى مجرد نقطة عبور للولايات المتحدة الاميركية وغيرها من بلدان العالم لتحقيق أهدافها الاقتصادية والاستراتيجية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ