أخيرة

وزارة الثقافة كرّمت القاضي والشاعر سليم حيدر

نظّمت وزارة الثقافة ندوة فكريّة تكريميّة للوزير والنائب والسفير والقاضي والأديب والشاعر الراحل سليم حيدر بشخص وزيرها القاضي محمد وسام المرتضى في مقر المكتبة الوطنية – الصنائع، حضرها مستشار رئيس الجمهورية الوزير السابق سليم جريصاتي، الوزيران السابقان جورج قرم والدكتور عصام نعمان، النائب السابق اميل رحمة، الرئيس السابق للمجلس الدستوري الدكتور عصام سليمان، الرئيس السابق للمجلس الأعلى للجمارك عصام حب الله وحشد من الشخصيات السياسية والقضائية والقانونية والفكرية والأدبية والثقافية وعائلة الراحل. وتخللت الندوة كلمات لكل من الوزير المرتضى، الدكتور ساسين عساف، الأستاذ  شوقي ساسين، السيدة دُنى حيدر ضناوي والدكتور حيان حيدر.

كما جرى تخصيص ركن في المكتبة الوطنية، يضم الإنتاج الادبي القيم للراحل ليكون مرجعاً لكل طالب علم ومعرفة وثقافة .

والقى المرتضى كلمة عن المكرم جاء فيها: «هو البحرُ من أيِّ النواحي أتيتَه»، هذا قول ينزلُ على سليم حيدر حفرًا وتنزيلًا، لا من قبيل المدحِ الفارغِ بل من باب الوصفِ الصادقْ. فهو القانونيُّ بامتياز، القاضي الناصعُ الضمير، المحامي البارع، الدبلوماسيُّ الكُفْءُ، النائبُ المفوَّهُ، الوزيرُ الأمينُ، الأديبُ اللامع، الشاعرُ الرؤيويّ والإنسان، هو الذي أثمرت مواهبهُ أبناءً بَرَرَةً من لحم ودم، كما من ورقٍ وكلمات؛ فكيفَ لا يكونُ بحرًا مَن جمعَ هذه الملَكاتِ كلَّها في كيانٍ واحد؟».

وتابع: «في منتصف الحرب العالمية الأولى فتحت مدينة بعلبك عينَيْ صباحِها على مولودٍ حيدريّ، من غير أن تعلمَ أنَّه في حِقْبةٍ ما سيُطلعُ من يراعته صباحٌ جديد على عالم الثقافة، وسيسطعُ من مسيرته فجرٌ مشرقٌ في سماءِ الوطنية، وسيزرعُ في أعماق ذاته شجرةَ معرفة عميقةَ الجذور متينةَ الجِذْعِ خضراءَ الأغصان، تأوي إليها الثقافةُ أسرابًا من نثرٍ وشعرٍ ومواقفَ وخُطبٍ، كما تأوي رفوفُ العصافيرِ إلى أعشاشِها عند المساء. أما هو، فبعكسِ بلدته الوادعة، عرَفَ منذ اليفاعة أنَّ عليه أن يجعلَ من شأنِه شأنًا، لا له وحدَه بل لناسه ومجتمعِه وقومه ووطنه. وهكذا كان في العلومِ التي حصّلَها والمناصب التي اختارها أو دُعِيَ إليها، منارة ثقافيةً وإنسانيةً، ومُلتقَى قيمٍ، وداعيةَ إخاء وطني.»

وأضاف: «على ذكر الأخوة الوطنية نستذكر قصيدته «المغارة» التي خاطب بها ابنَه حيان ذا الأعوامِ الاثنَي عَشَر؛ يومَ رآه «منهمكًا بمغارة الميلاد يشيِّدُها بيديه الصغيرتين من الورق والدبابيس والأخشاب والأشخاص… مغتبطًا بما فعل»، فكتب له:

يا ابني مغارتُكَ الصغيرةُ حُلْوةٌ سَلِمَتْ يداكْ

فيها الحبيبُ الطفلُ وَضّاءُ الملامحِ كالملاكْ

قلنا به عيسى النبيَّ ابنَ البتولِ، ابنَ السّماءْ

قالوا به أقنومَ ذاتِ اللهِ يأتي للفداءْ

أَنْعِمْ بما قالوا وقُلْنا، إنه عيسى المسيحْ

غَوثُ المشرَّدِ، لقمةُ الجَوْعانِ، عُكّازُ الكسيحْ

بهذا الانفتاحِ السّمحِ تجسَّدَت دعوتُه إلى الوحدة الوطنية: أن يشاركَ المواطنون بعضُهم بعضًا غبطةَ أيامهم وأعيادهم، وأن يؤمن كلٌّ كما يريد؛ المهم أن يكون تعبيرهم عن إيمانهم انفتاحاً على الآخر، وقبولاً له، وتمسكّاً به، ومن ثَمّ نبذاً للتعصّب والشرذمة، ومناهضةً للظلم، ونصرةً للمظلوم، وبشكل عام انتماءً إلى الفضيلة والإنسانية والتزاماً بأفعال البِرّ، التي بها يَسْلَمُ بناءُ لبنان.»

 وختم: «الآن، ينزلُ سليم حيدر في رحاب المكتبة الوطنية ليسكنَها كتابًا يُقرأُ ومرجعًا يُستَشْهَدُ به. إنه الآن في حضوره الوطني يقيمُ في المنزلِ الأحبِّ إلى قلبه، ونحن إذْ نحتفي بهذه المناسبة الثقافية الراقية نجدد إيماننا بأن هوية لبنان الحقيقية هي التي يدوَّنُ في مندرجاتِها أن الفكرَ أبوه والثقافةَ أمُّه والمعرفةَ شهرتُه والحريّة والرفعة غذاؤه وماؤه. على هذا الإيمان عاش سليم حيدر وكتب وأبدع، فطوبى له في عليائه وطوبى للبنان به وبأمثاله».

من جهته تناول الدكتور ساسين عساف في كلمته «سليم حيدر ناقداً فنياً»، في قراءة ومقارنات بين ما كتب الراحل  وعدد من أعلام النقد الغربي ومدارس.

لافتاً: «مهما كان الرأي في هذه القراءة فهي لا تدّعي أنّها، من خلال نصّ واحد، وعلى قصره واكتناز ما فيه من أفكار وآراء، أظهرت سليم حيدر صاحب نظرية نقدية مكتملة العناصر. ربّ قراءات لاحقة، يقوم بها آخرون من أساتذة جامعيين وباحثين متمرّسين بأصول النقد الفنّي ومنهجياته الحديثة، تتوافر لها سائر العناصر فتبرزها على قدر من التماسك ما يسمح أكاديمياً باعتباره مبرّزاً في مجال النقد كما هو في الشعر والفلسفة والسياسة والتربية».

وعن الشاعر الفيلسوف في ملحمة «الخليقة» في دراسة للدكتور علي حسن، ألقتها دُنى ضناوي وقالت نقلاً عنه: «تردّدت كثيرًا قبل أن أباشر المغامرة الجريئة بالكتابة عن سليم حيدر، ووصفه بالشاعر الفيلسوف، فكثير من كبار الأدباء والشعراء وأساتذة الفلسفة قد سبقني إلى ذلك وأهمّهم الشيخ عبد الله العلايلي».

وأشارت الى أن الدكتور علي حسن اعتبر أن «ملحمة سليم حيدر «الخليقة» تبقى فريدة من نوعها، فهي لا تروي قصص معارك أو بطولات خارقة ولا تعتمد على الأساطير. وإنّما هي – كما يدلّ اسمها تتحدّث عن الوجود بحدّ ذاته وكيف خلق الله الكون، معتمدة أساسًا على القرآن الكريم وسفر التكوين بأسلوب شاعريّ نادر الجمال وعمق فلسفي يحاول أن يجد الأجوبة على الأسئلة الفلسفية التي لم تجد جوابًا عليها حتى الآن. وقد جعلها مؤلفها في خمسة فصول، كلّ فصل من عشرة أناشيد، ويتألف كلّ نشيد من عدّة قصائد على قوافٍ مختلفة كلها من الوزن البسيط.

وقدّم شوقي ساسين مداخلة تحت عنوان «سليم حيدر الشاعر السؤال»، مشيراً الى ان «قلةً من الشعراء جعلوا السؤالَ المحض لغةً تشغلُ محابرَهم بدوام شبه كامل. سليم حيدر منهم، فإن قصائدَه حقولٌ من علامات استفهام، ينبت فيها السؤالُ لزًّا بجنبِ أخيه، سنابلَ أبجديةٍ مثقَلَةً بالمجهول  ولأقلامه كينونة وجودية. بل لعلَّه هو بذاته سؤالٌ من لحمٍ ودمٍ وخيالٍ ووجدان، فإن صحَّ قولي هذا أصبح خطأً قولُه ذاك عن توقِه المريضِ إلى السؤال، فإنه بحِسْباني لم يكن يجدُ السلامةَ الحقَّةَ إلا متى تَوَعَّكَت دواتُه بالأسئلة. بل لعلَّه في كلِّ ما كتب وفعل، كان يستعيد قول سقراط في محاكمته أمام الأثينائيين: «إن الحياةَ بلا تساؤلاتٍ لا تستحقُّ أن تعاش».

 وفي ختام الندوة كانت كلمة لابن الراحل المكرم الدكتور حيان حيدر في دقيقة شكر كما أسماها، لكل من الحضور والمشاركين والمتكلمين، وخصّ بالشكر وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى: «تعرّفت عليه منذ شهور قليلة في اجتماع لمؤسّسة تراثية، مراقبًا.  هو، باختصار، يستمع، يقتنع، يبادر، ينفّذ. فقلت لنفسي: هذا الذي… فكانت هذه الأمسية اللطيفة وما رافقها وما سيتبعها.»

وختم: «فشكر مكرّر ومضاعف يا معالي الرئيس الأستاذ محمد وسام المرتضى. وأخيرًا، إلى والدي. تفارقني الذاكرة، عامًا بعد عامٍ، ولا تفارقني الذكرى، قصيدةً بعد حكمة.  دائمًا ما يطيب لي أن أستعين بقصيدة حبّ أرادها سليم حيدر بعنوان «لذّة البوح»، والتي غنّتها السيدة فيروز من الإذاعة اللبنانية في أواخر خمسينيات القرن الماضي («قولي أحبّك»).  يقول سليم:

« قولي أحبّك لا تملّي

قد قُلتِها وأعَدتِها

فالصمتُ عنوانُ التخلّي

لكنّها لم تشفِ غلّي .

 بدوري، أقول لك، والدي الحبيب، وبلوعة المشتاق: لقد كانت هذه المناسبة كي لا يكون الصمت عنوان التخلّي    ومع أحبّائنا هنا، ذكرتك… وتذكّرتك… لعلّها تشفي غلّي.»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى