وجوديّة الفلسفة القوميّة الاجتماعيّة الدنيويّة
} يوسف المسمار*
إن نظرتنا الى الحياة والكون والفن هي نظرة دنيويّة بالمعنى الاجتماعي الحياتي، وليس نظرة أخروية بالمعنى الماورائي الغيبي. إنها تقرر من البداية كما قال الفيلسوف انطون سعاده: «إننا لسنا من الذين يصرفون نظرهم عن شؤون الوجود إلى ما وراء الوجود، بل من الذين يرمون بطبيعة وجودهم الى تحقيق وجود سامٍ جميل في هذه الحياة، وإلى استمرار هذه الحياة سامية جميلة».
وهذا يعني بما لا يدع مجالاً للشك فيه أننا لا نتنكر لعالم الغيب أو عالم الماوراء بل إننا نفضل أن نصرف جهودنا ونركّزها على تحسين وجودنا وترقية مستوى حياتنا لنتمكّن بتطورنا وتقدمنا من الإطلال على مشارف أعلى وأرقى من الكون الماثل أمامنا. لأننا نعتقد جازمين أن من لا يستطيع أن يتعرّف على دنياه بما فيه الكفاية لا يتمكن مطلقاً من التعرّف على عالم الغيب الماورائي السابق لوجوده أو اللاحق لارتحاله عن هذا الوجود.
إن نظرتنا الدنيوية لا ترفض النظرة الأخرويّة، بل تترك شؤون ما وراء الوجود الإنساني للذين يعملون في هذا المجال. وتعتبر نفسها من حيث عملها في تحسين الوجود الإنساني أنها تسير بخطى حثيثة نحو اكتشاف المزيد من النواميس الكونية التي ما تزال محجوبة عن دائرة وعي ونشاط الإنسان وفاعليته. وهي في الوقت نفسه تساهم مساهمة كبرى في تهيئة وإعداد الناس وتعميق وترقية مفاهيمهم لإدراك المسائل الكبرى التي تختصّ بما قبل الحياة الإنسانية وما بعدها، فتتفهّم حكمة الله في الخلق والبعث والنشور على غير ما استذوقه واستنسبه ودعا إليه الجاهلون المعاندون.
فالله الذي وهبنا العقل لم يهبنا إياه عبثاً لنلهو، ونتسلى، ونلعب. وإنما وهبنا العقل لنعمل به ونرقى ونسمو». وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟»** إننا ندرك تماماً أهمية عدم الفصل بين مسائل الوجود واللاوجود. ومسائل الماقبل ومسائل الراهن ومسائل المابعد. ولأننا ندرك ذلك فينبغي علينا أن لا نخلط الأمور فيما بينها. علينا أن نتجنب ما أمكن خلط الوجود باللاوجود، وخلط الماقبل بالمابعد لئلا تختلط علينا أمور الدنيا بأمور ما بعدها وأمور الغيب بأمور العلن، فنتيه في صحراء السراب، ولا نصل أبداً الى ما ينفعنا لا في هذه الدنيا ولا في ما بعدها.
النظرة إلى الحياة والكون بالمعنى الاجتماعي شيء، والنظرة الى ما بعد الحياة وما وراءها بالمعنى الديني الغيبي شيء آخر.
إننا نرى أنه لا يضير النظرة الاجتماعية الى الحياة والكون أن تقتصر على شؤون الحياة الدنيوية أي شيء، كما أنه لا يقلل من أهمية النظرة الماورائية أن تنصرف الى شؤون الآخرة ومصير النفوس. بل إن النظرتين: النظرة الوجودية الحياتية والنظرة الماوراء – وجودية الغيبية ضروريتان ومهمتان للكائن الإنساني ليعيش في هذه الدنيا عزيزاً كريماً وعلى مصيره الذاتي بعد موته مرتاحاً ومطمئناً.
على ضوء هذه الحقيقة نفهم موقف النظرة القومية الاجتماعية الى الحياة والكون والفن حين اعتبرت ان حرية المعتقد حق مقدس للأفراد. يجهرون به، ويمارسونه بكل حرية شرط احترام عقائد الآخرين وعدم الإضرار بهم، لأنها ترى أنه ما أعطيَ لأحد أن يهين كرامة أحد، وليس من حق أحد من الناس كائناً من كان أن يُكره أحداً على حب شيء أو يجبرَ أحداً على بغض شيء.
فالنظرتان يمكنهما أن تكونا، بل يجب أن تكونا جنباً الى جنب في تناغم وانسجام وليس في عداء لأنهما تلامسان وتتناولان أعماق الكائن الإنساني رغداً وطمأنينة.
فإذا كانت النظرة المجتمعية القومية الاجتماعية تهتم بحياة الإنسان المجتمع في هذا الوجود، وتحسين هذه الحياة وترقيتها. فإنها لا تتناقض أبداً، ولا يجوز أن تتناقض مع نظرة غيبيّة دينبّة تهتم بمصير الإنسان بعد الموت، وتجتهد بزرع المبادئ المناقبية من أجل راحة النفوس، وربح الحياة الأبدية الأخروية، لأن لكل نظرة من النظرتين دائرتها وآفاقها.
أن النظرة الدينية ما كانت، ولم تكن لتناقض واقع الحياة بل كانت لتشريف الحياة، ولتحسين الخليقة، وتعميم العدل والإحسان والخير بين الناس ومحاربة الظلم والباطل والشر.
لقد فصلت وميّزت بين ما هو ديني وما هو دنيوي، ولم تحكم على مسائل الدنيا بمنظار الدين، ولا مسائل الدين بمنظار الدنيا، بل حكمت بالقسط والعدل فكان تحسين الحياة للناس وكانت طهارة الدين وقدسيته لله. وحسمت الأمر على لسان السيد المسيح بالقول السديد:
«أوفوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله»، ليأتي بعد ذلك القول الحكيم في الآية القرآنية:
«وابتغ ِ فيما أتاك الله الدار الآخرة، ولا تنسى نصيبك من الدنيا. وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ ِالفساد في الأرض إنَّ الله لا يحب المفسدين».
فإذا وجدنا اليوم الكثيرين من المتدينين ينعتون أصحاب النظرة القومية الاجتماعية الى الحياة والكون والفن بالكفر والإلحاد، فلأنهم لم يطّلعوا على حقيقة تلك النظرة، ولا على حقيقة الواقع الاجتماعي الاقتصادي السياسي، ولم يفهموا رسالة دينهم الحقيقيّة التي تقوم على المحبة والرحمة، وتهدف الى تطهير نفوس الناس من كل فساد. وما الأنبياء بحسب ما ورد في القرآن المجيد إلا رحمة للعالمين.
ومَثلُ أولئك المتدينين هو تماماً كمَثل المتمخرقين المتفذلكين المدّعين العلمانية والتقدمية زوراً وباطلاً الذين يتهمون كل مَن يصلي لله ويناجيه، ويعمل بتعاليم رسله، بالتخلف والجهل والمسكنة والغباء.
إن سبب ذلك هو ان الفئتين لم تفهما جيداً حقيقة الواقع الاجتماعي ولا حقيقة رسالة الدين. إنهم حكموا على الدين بمنظار السياسة والاقتصاد، وحكموا على العباد الصالحين الممارسين لتعاليم دينهم بمنظار الجهل والحزبية الضيقة الخانقة، فضلوا ضلالاً بعيداً. فلا هؤلاء ولا أولئك كانوا من العالمين المهتدين الصالحين. والويل كل الويل لمجتمع يحكمه ويتحكم فيه الجهلة والمتجاهلون ومرضى العقول والنفوس والقلوب والضمائر. «ولا تهدي مَن أحببت إن الله يهدي مَن يشاء»، كما جاء في القرآن الكريم.
بكلمة موجزة نقول: إنه لا غنى لطلبة الآخرة عن الدنيا، فالدنيا هي الطريق الى الآخرة. فمن أراد آخرة كريمة فليعمل ليكون كريماً في دنياه، وليكن صادقا مع نفسه ومع الآخرين، وليقم بواجبه نحو نفسه ونحو مجتمعه أيضاً.
فمن أحيا نفسه، فقد أحيا مجتمعه ومن أحيا مجتمعه فقد سار على طريق إحياء الإنسانية جمعاء وكان من الذين ظفروا بحب ورضى رب العالمين. ونقول أيضاً: إنه لا مهرب لطلبة الدنيا من الآخرة. فالآخرة هي ما لا يستطيع الهرب منها أحد «ويدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة». كما ورد في الآية الحكيمة.
ولأن الآخرة كذلك، فإن الحكمة البالغة تقضي هي أن يختار المرء آخرته بنفسه وهو على قيد الحياة قبل أن تفاجئه آخرته فيخسر الحياتين: حياة الوجود وحياة ما بعد الوجود.
فوجودنا الاجتماعي وحياتنا الأخروية هما ما نحن، وما نكون، وما سنكون بأعمالنا وممارستنا وإنتاجنا وصراعنا في هذا الوجود الذي هو نقطة البداية والانطلاق لأي وجود آخر يمكن أن يكون بعده أو وراءه.
فهذا الوجود هو ساحة عملنا، ومختبر صلاحنا وفيه نترك إرثنا وتراثنا لأجيالنا. وفيه أيضاً تكون شهادة رضى الله أو سخطه علينا.
إن الوجود بالنسبة للنظرة الاجتماعية القومية الإنسانية الى الحياة والكون والفن هو على ثلاثة أنواع:
النوع الأول هو الوجود الظاهر المكشوف للإنسان. والنوع الثاني هو الوجود الممكن اكتشافه ومعرفته والاطلاع عليه.
أما النوع الثالث فهو الوجود المستحيل اكتشافه ومعرفته والإحاطة به من قبل الإنسان لأنه أبعد وأعمق وأشمل من أن يحيط به عقل بشر وهذا هو الوجود الماورائي أو الماوراء وجودي الذي لا يخضع لعلم مخلوق، بل يخضع فقط لعلم الله الخالق العليم القدير الذي أوجد هذا الكون الماثل أمامنا ولا يعلم خفاياه ونواميسه وأسراره إلا هو.
إن نظرتنا الإنسانية الاجتماعية تنحصر بالنوعين الأولين: الوجود الظاهر المكشوف، والوجود الذي لم يتسنّ لنا اكتشافه بعد ويمكننا اكتشافه. أما النوع الثالث الذي يتعلق بالوجود المستحيل اكتشافه من قبل الإنسان فإننا نقرّ ونعترف أن قدرتنا الإنسانية وأهليتنا وإمكانيتنا غير جديرة بتناوله، وفك رموزه. بل إن تناول هذا النوع من الوجود هو ضرب من المحال، ونوع من التكهن والتخمين والظن لا يجني الخائض فيه إلا المزيد من التخرّص والوهم والضياع.
وهل أصدق من القرآن الحكيم حين قال:
«يسألونك عن الساعة أيّان مرساها؟ قل علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو…».
وقد أوضح كاشف النظرة الى الحياة والكون والفن العالم الاجتماعي والفيلسوف انطون سعاده أن العقيدة القومية الاجتماعية المنبثقة عن تلك النظرة:
«لم تتعرّض للدين وعقائده الدينية التي غرضها خلود النفس بعد ارتحالها من هذه الدنيا في مقامين مختلفين:
المقام الأول مقام النعيم. والمقام الثاني مقام الجحيم.
فمن أراد النعيم ابتدأ ممارسة الإيمان الذي يعتقد أنه يوصله اليه وهو بعدُ في هذه الدنيا، فيهيئ بهذه
الطريقة خلوده في النعيم. ومن أراد الجحيم ابتدأ يمارس المعاصي والكفر. فلا المؤمنون يذهبون إلى الجحيم بكفر الكافرين ولا الكافرون يذهبون إلى النعيم بإيمان المؤمنين. وأما الذين لم يؤمنوا ولم يكفروا، فالبعض يقولون إنهم يذهبون الى الجحيم، والبعض يقول إن حساب الله يقرر لكل واحد منهم حسب أعماله إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً.
وما دام الحساب بيد الله، فلنخفف قليلا ً من غلوائنا فلعل الله يريد غير ما يراه عباده».*
وقال ايضاً: «إن حركة العقيدة القومية الاجتماعية لم تمنع أحداً قط من إظهار معتقداته الفلسفية من أي نوع كانت في كتاباته. فيمكنكم أن تنشروا أفكاركم واستنتاجاتكم في الخلق والنشر والحساب، وليوافقكم على ذلك مَن شاء وليخالفكم مَن شاء».