الشاعرُ شعرُه
} يوسف المسمار*
أدب الأديب نطقاً كان أو كتابةً، نثراً أو شعراً هو تعبير عن ذاته العميقة سواء كانت تلك الذات هادئة أو صاخبة، خيّرة أو شرّيرة، متوهّجة أو خامدة.
ومهما حاول الأديب الناثر او الشاعر أن يُخفي ما في أعماقه من انفعالات وأفكار، ومطامح أو مطامع، فإنه لا يوفق الى إخفاء ما في نفسه الى نهاية حياته. بل لا بدّ من أن تظهر مشاعره الداخليّة وتوجّهاته الخصوصيّة الشخصيّة عند أول مفصل يصل إليه بوعيه، أو يفاجئه من دون ان يتوقّع بحيث تظهر شخصيته الفردية على حقيقتها، وتحتلّ مركزها من خلال عطائها الأدبي النثري أو الشعري أو الفني.
وبروز شخصية الأديب عبر أدبه ليس حادثاً بسيطاً ولا أمراً عابراً يمكن الاستخفاف به، بل هو كما قال العالم الاجتماعي السوري انطون سعاده في مقدمة كتابه نشوء الأمم:
«لقد كان ظهور شخصية الفرد حادثاً عظيماً في ارتقاء النفسية البشرية وتطوّر الاجتماع الإنساني. أما ظهور شخصية الجماعة فأعظم حوادث التطوّر البشري شأناً، وأبعدها نتيجةً، وأكثرها دقةً ولطافة، وأشدها تعقداً، إذ إن هذه الشخصيّة مركّب اجتماعيّ – اقتصاديّ – نفسانيّ يتطلّب من الفرد أن يضيف إلى شعوره بشخصيّته شعوره بشخصيّة جماعته، أمته، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه، وأن يجمع الى فهمه نفسه فهمه نفسية متحده الاجتماعي، وأن يربط مصالحه بمصالح قومه، وأن يشعر مع ابن مجتمعه ويهتمّ به ويودّ خيره، كما يودّ الخير لنفسه».
وبين شخصية الفرد «الأنانية» وشخصية الجماعة «النحنويّة» تتراوح الأحاسيس والمشاعر، وتتجاذب وتتنافر الأفكار والخواطر، وتتقاذف وتتنازع المصالح والأهواء ولا يهدأ الصراع الفكري الداخلي في نفس الأديب أو الشاعر إلا بعد حسم الأمر واستتبابه الى جانب إحدى الشخصيتين: شخصية الفرد الأنانية الخصوصية أو شخصية الفرد الاجتماعية العمومية. وغالباً ما يُحسم الأمر لصالح شخصية الفرد الخصوصية وبروز الأدب الشخصي الفردي الذي ظهر بأجلى مظاهره في شعر من يسمّونه شاعر العرب الأكبر المتنبي، حين قال:
أيُّ محلٍ أرتقي أيُّ عظيمٍ أتقي
وكلُّ ما قد خلقَ اللهُ وما لم يخلق ِ
محتقرٌ في همتي كشعرةٍ في مفرقيِ
ولو تفكّر المتنبي قليلاً في الأمر، وأمعن نظره في وجود الخليقة وانتشار البشر، وتوزّع الجماعات والأمم لوجد نفسه واحداً من ملايين أبناء أمته، أو واحداً من مليارات الناس ليس أكثر، ولما قال ما قال. ولولا بعض أشعار الحكم النافعة التي أخذها من الحياة لانطفى ذكره ولم يبق له شأن بين أدباء الحياة وشعرائها ألا كشاعر فرديّ لا يرى في الحياة الا نفسه جديراً بها.
ولأن «أصول الأدب يجب أن تكون في الحياة لتتمكن من إعطاء ثمارٍ تغذّي الأحياء… وكل أدب لا يعرف الحياة لا يحيا»، كما قال الفيلسوف الأديب أنطون سعاده، فإن المتنبي استمرّ في الحياة من خلال الحِكَم التي استوحاها واستقاها من الحياة. وليس المتنبي هو وحده من بهرته الشخصية الفردية الأنانية فسجن نفسه في انغلاقها، بل هناك الغالبية الساحقة من أدباء وشعراء العربية الذين توهّموا أن في تفتح الشخصية الاجتماعية فيهم ذوبان لشخصيتهم الفردية ولم يدركوا أن في بروز الشخصيّة الاجتماعيّة فيهم نمواً لهم وتطوّراً متميّز لشخصيتهم، وترقية لشعورهم وإحساسهم وفهمهم وفكرهم وإبداعهم وكثرة خيرهم، لأن انتصار الشخصية الاجتماعية في الفرد هو الولادة المُثلى فيه التي تجعله ينمو ولا يموت، يرتقي ولا يتخلّف، يفيض ولا يذوب، يتألق ولا ينطفئ.
وكم نحن بحاجة إلى أن نعي ونفهم ونتبصّر معنى كلام السيد المسيح حين جاءه أحد الفرّيسين متعجباً من قول السيد المسيح: «الحق الحق أقول لك إنْ كان أحدٌ لا يُولدُ من فوق لا يقدرُ أن يرى ملكوت الله. المولودُ من الجسد جسدٌ هو، والمولود من الروح هو روح».
بهذا الكلام تنقشع الغشاوة، ويلامس الضوءُ البصيرة، فتتنبّه روح الإبداع، ونفهم أن إبداع الأديب والشاعر والفنان يكون في ولادته الجديدة. في نموّه وارتقائه وخروجه من فلك إنسان فرديّته الأنانية الى فضاء إنسان اجتماعيّته الإنسانيّة، وندرك أيضاً أن الإبداع الأعظم لا يكون ولا يتحقق الا بنظرة عظيمة كلية شاملة الى الحياة والكون والفن تفسح مجالاً واسعاً للتألق الروحي يساعد الإنسان على أن يكون إمكانية تألهٍ تائقة أبداً الى التحقيق، وتحقيق التألّه تألقٌ روحي اجتماعي إنساني ليس بمنتهٍ أبداً لأنه نفحة روح الله في الإنسان روحأً ونفساً وعقلا. وهل عجيب أن تكون نفحة الله في الإنسان هي إمكانية التأله التائق الى التحقيق؟
فالشاعر هو شعره نظرةً إلى الحياة، وتعبيراً عما استطاع أن يستوحي منها من شعور بأجملِ صيغةٍ من البيان الذي وصفه النبيُّ محمد قائلاً «إنَّ في البيان لسحرا».
لقيد قيل: «أعذب الشعر أكذبه» ورأيي: «أن أعذب الشعر أحكمه» وحكمة الحياة تنبّه الغفالى، وتَروي الظمأى، وتُغذّي العطاشى، بينما الكذب في الحياة لا يهدي تائهاً، ولا يطفئُ عطش ظمآن الى المعرفة، ولا يسدّ جوع جائع الى الحكمة والفضيلة. والعذوبة الحقيقيّة لا تكون في الكذب والخداع أبداً، بل العذوبة الصادقة هي التي تنتشل النفوس من التيه وتُخرجها من الظلمات إلى حياة الوضوح.
ولا شيء كالصدق يهدي إلى حقيقة الخير. حقيقة الحياة الخيّرة الجميلة التي تجعل الأدباء والشعراء والمبدعين يُضيئون ليل أمتهم والعالم بصباحاتهم المنعشة ولا يتساقطون على جوانب الطريق وفي كل وادٍ يهيمون.
نحن بحاجة الى أدب صدقٍ ووضوح لا الى أدب نفاقٍ وغموض. فأدبُ الحياة الصادقة نورٌ يطارد ظلمة، وأدبُ النفاق ظلمةٌ تنعدم أمام ومضة نور.
ولإيجاد أدب الحياة الصادقة الواضحة، فنحن بحاجة دائماً الى أدباء وشعراء اجتماعيين ومبدعين صادقين وأبطال ملتزمين بالنهوض بالحياة الاجتماعية الإنسانية، وجمال الحياة، ورقيّ الحياة بنظرة جديدة بديعة قومية اجتماعية إنسانية شاملة تهدي الى النهوض بالحياة الجميلة وقيم الحياة الراقية.