بالإجماع لا حكومة…
} علي بدر الدين
لم يأخذ الرئيس المكلَّف بتشكيل الحكومة نجيب ميقاتي في الاعتبار، ما تمخضَّت عنه الاستشارات النيابية الفولكلورية غير الملزِمة التي هي في أفضل الأحوال لزوم ما لا يلزم، ولم يستعن بالآراء والأفكار والمطالب والشروط والتمنيات التي أودعها «السادة» النواب أمانة في جعبته، ربما تساعد او تعرقل تشكيل الحكومة وفق مصلحة كلّ كتلة نيابية وفريقها السياسي، حتى أنّ الرئيس المكلَّف لم يٌتعب نفسه في غربلة «ودائع» النواب أو فرزها، بدليل حمله على عجل وبعد انتهاء هذه الاستشارات، لمسودَّة تشكيلة حكومية بخط يده وموجودة أساساً، بعنوان تصريف الأعمال مع تعديلات طفيفة في الحقائب والأسماء وتسليمها لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون، والنتيجة كما بات معلوماً هي رفض هذه التشكيلة، ولا بدَّ من العودة إلى نقطة البداية واتّباع «أصول وشروط» تشكيل الحكومات في لبنان، والتي تستدعي من المكلَّف أن يظلَّ أشهراً يصول ويجول ويسترضي هذا الفريق أو ذاك المرجع أو تلك الطائفة، بعناوين الميثاقية وتأمين التوازنات الطائفية والمذهبية والمناطقية ولا همّ إنْ تأخَّر التشكيل، وسيطر الفراغ، وانهار الاقتصاد أو فقر الناس وجاعوا، المهمّ أن ترضى المنظومة السياسية وأن تتحقق مصالحها وتتسمًّر وتتأبَّد في مواقع السلطة.
من دون «لفّ ودوران» ومناورات ووعود كاذبة وتحليلات مصطنعة غير واقعية ومقنَّعة وضخ هذا الكَّم من مواقف المزايدة، نقولها: بصريح العبارة وبوضوح لا شكَّ فيه ولا لُبس، إنّ المشهد السياسي القائم أسود وقاتم ولا يؤشِّر أو يوحي، بأنًّ الرئيس المكلَّف قادر في هذه المرحلة على «تدوير الزوايا» أو اجتراح المعجزة المستحيلة لحلِّ ألغاز التأليف، لعدم قدرته على الاستجابة لشروط المنظومة السياسية وتلبية مصالحها مع أنه جزء منها، لأنّ الجميع لا يرغب ولا يريد أن تتألف حكومة، ليس بمقدورها أن تلبّي الطموحات الحقائبية والسلطوية والمصلحية والنفعية لأيّ من هذه المنظومة في المدى القصير الذي يفصلها عن استحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
اللافت في الأمر أنّ قوى سياسية تعتبر نفسها وازنة ومؤثرة في السلطة والقرار كانت «تقاتل» وتستشرس من أجل المشاركة في أيّ حكومة، والحصول على ما تسمِّيه حقائب سيادية «تبيض لها ذهباً» تعلن بكلّ «جرأة» ووقاحة وعلناً، أنها غير معنية بتأليف الحكومة ولن تشارك فيها، إذا ما حصلت معجزة وتشكَّلت، هذا لا يعني تعففاً منها أو تسهيلاً لمهمة الرئيس المكلَّف المحفوفة بخطر الفشل المحتوم، لكثرة التعقيدات وعدم الرغبة في إنضاج الطبخة الحكومية.
هذه المواقف المسبقة لهذه القوى «الشريفة والعفيفة والمنزَّهة» المفاجئة، لا تفسير لها سوى أنها تزرع ألغاماً إضافية لعرقلة التشكيل، لأنها تدرك جيداً على خلفية ما تملكه من قدرة لها على وضع عصيِّها في دواليب عربة التأليف، ومن معطيات ومعلومات، تثبت أنّ هناك قراراً متخذاً عن سابق اتفاق «جَماعي» أو شبه إجماعي، على أنّ ولادة الحكومة متعثِّرة جداً، بل من المستحيل أن تبصر النور قبل الاستحقاق الرئاسي، حيث «العيون» المحلية والإقليمية والدولية شاخصة الى هذا الحدث الدستوري الأهمّ الذي يمكن أن يُبنى عليه المقتضى السياسي والرئاسي والحكومي لبدء مرحلة سلطوية جديدة.
يقال إنّ «المكتوب يُقرَأ من عنوانه» وقد فضح الرئيس المكلَّف مضمونه، عندما سلَّم مسوّدة تشكيل حكومته بعد أيام قليلة من تكليفه رسمياً، من دون العودة إلى أحد «ضمناً» على غير عادة في تشكيل الحكومات في لبنان، كأنه أراد بذلك إبلاغ من يعنيهم الأمر استحالة تشكيل حكومة جديدة، ولا بديل عن حكومة تصريف الأعمال التي يرأسها معدَّلة ومجمَّلة أو لا حكومة، وهذا ما أثار ردود فعلٍ سلبية ومستهجنة من أعلى هرم السلطة إلى أدنى قوى المنظومة السياسية، التي استنتجت وتأكدت أنّ أيّ حكومة لن ترى النور لا اليوم ولا غداً ولا بعدهما حتى يحين موعد الاستحقاق الدستوري الرئاسي ونقطة على السطر.
كلّ ما يحصل اليوم من حراكٍ سياسي ورسمي خافت وهزيل من الرئيس المكلَّف وما يصدر من مواقف تدعو إلى الإسراع بتشكيل الحكومة، ليس سوى مضيعة للوقت وذرّ للرماد في العيون، وإلهاءٍ للشعب وحقنه بمزيدٍ من أبر التخدير، وتركه فريسة سهلة للفقر والجوع والمرض والحرمان، ولـ «مافيات» السوق السوداء والجشع والاحتكار، التي تراكم ثرواتها، ومن بعدها الطوفان والغرق والجحيم لهذا الشعب المسكين الذي تحوَّل إلى ألعوبة من عجين بيد المنظومة المتسلطة والمستبدّة، التي لن ترى أبعد من مصالحها واستمرارها في مواقعها والبقاء على تخوم نفوذها.
في المحصِّلة، لا جديد في حركة الرئيس المكلَّف سوى مواصلة الذهاب إلى قصر بعبدا، الثلاثاء والجمعة أو الاثنين والخميس، والعودة منه خالي الوفاض من دون ولادة الحكومة طبيعياً أو قيصرياً…