حضانة الأمّ لأطفالها سلامة صحية ومجتمعية
} سارة طالب السهيل
يمثِّل حصول الطلاق بين الزوجين انفصال في العروة الوثقى للأسرة، وغالباً ما يدفع الأطفال الصغار ثمناً باهظاً، نفسياً واجتماعياً لهذا الانفصال، خاصة عندما يتنازع الزوجان على لمن تكون الحضانة، ويتفنّن المحامون في كيفية تحقيق «الانتصار» لموكليهم من الآباء والأمهات للحصول على حكم قضائي بالحضانة، من دون مراعاة الاحتياجات النفسية للأطفال الصغار، أو في إشعارهم بالأمان الذي توفره حضانة الأمّ، ما يؤدّي إلى إنتاج أطفال غير أسوياء.
إهدار الإنسانية
الكثير من الزوجات المطلقات في العالم العربي دفعنَ فاتورة شديدة القسوة، من أعصابهنَّ وآلامهنَّ لحرمانهنًّ من حقهنًّ في حضانة أطفالهنَّ وأهدرنَ إنسانيتهنَّ في ساحات القضاء لكي تتمكنًّ فقط، من رؤية أطفالهنَّ وضمّهنَّ في أحضانهنَّ، لأنَّ هناك بعض قوانين الأحوال المدنية تحرم الأم من رؤية صغارها حتى وإن كان طفلا رضيعاً، بعد فشل جهودها في الحصول على صكِّ الحضانة، بينما يحقّ للزوج حضانة الصغار، من خلال مخالفة الدين والعادات والتقاليد والقوانين الدولية أيضاً، مع أنّ كلّ الشرائع والعادات والتقاليد والقوانين الدولية تكفل حقّ المرأة في حضانة صغارها، كما حملتهنًّ في رحمها تسعة شهور، غير انّ قوانين الأحوال المدنية في كثير من الدول العربية حرمت هذا الحقّ الشرعي للمرأة في حضانة أطفالها، حتى بعد تعديل القوانين بإعطاء الأمّ حقّ الحضانة، فإنها تبقى تعاني مرارة شديدة في التعامل اليومي مع متطلبات الصغار عند التعامل مع المؤسسات الرسمية.
بعد معاناة الأمّ قضائياً للفوز بحضانة صغارها، تواجه ظروفاً بالغة التعقيد في التعامل مع المؤسسات الرسمية في ما يخصّ الحصول على الأوراق الرسمية لصغارها من أجل أن توفر لهم التعليم في المدراس والجامعات لاحقاً، كما تواجه الأمرَّين في استخراج جواز السفر، وعندما تطلب من طليقها توفير المستندات المطلوبة، فإنه غالباً لا يلبّي طلبها بدعوى انشغاله، بل انه قد يتعمَّد تعطيل استخراجها بهدف استفزاز الأمّ وإلحاق الضرر النفسي لها.
وهناك مشكلة أكبر، عندما يطلِّق الأزواج زوجاتهم ويرحلون دونما معرفة أماكن تواجدهم، والبعض الآخر منهم ينسى أبوّته ويتخلى عن ايّ مسؤولية له تجاه أبنائه، بينما تعجز الأمّ المطلَّقة عن إيجاد ايّ منفذ لتأمين متطلبات أبنائها، بينما القوانين المعمول بها لا تعطي الأمّ أحقية التعامل الرسمي مع احتياجات الأبناء اليومية، وتشترط وجود الأب الغائب دائماً! فمن أين تأتي المطلَّقة بالأب لتجبره على إتمام المستندات الرسمية المطلوبة للصغار؟
ففي مصر كانت بعض الأمّهات يضطررنَ إلى إدخال أبنائهنًّ مدارس خاصة، لعدم وجود أوراق رسمية لصغارهنَّ، نتيجة تهديد أزواجهنَّ بأخذ الصغار منها إذا ما طلبت أيّ أوراق لهم. وبعضهنَّ اضطررنَ العمل في مهنٍ أو حرَفٍ شاقة للحصول على تكاليف مدارس أبنائهنَّ.
والغريب أيضاً انّ المرأة في الولايات المتحدة الأميركية لا يمكنها استخراج جواز سفر لأبنائها إلا بوجود الأب في حالات الزواج القائم فما بالك بالطلاق !
وهذا يؤكد انّ قوانين الأسرة في العالم كله تنتقص كثيراً من حق المرأة إذا ما أرادت إنجاز معاملات أبنائها، وتتعامل معها كإنسان فاقد الأهلية وغير كفؤ في رعاية صغارها، في حين انّ القانون نفسه يحاسبها مثلها مثل الرجل في كافة أنواع المخالفات اليومية، لجهة دفع الفواتير وضرائب العمل الى المخالفات المرورية الى السجن إذا ما ارتكبت أية جريمة قد يرتكبها الرجال.
التعامل مع الأمّ، وتصويرها على أنها غير قادرة وغير مهيأة لتحمّل مسؤولية الصغار، أمر لا يتفق مع المنطق والعقل او حتى مع التصوُّر الديني، ألم يقل الله في كتابه الحكيم «الرجال قوامون على النساء بما أنفقوا» وأكمل قوله تعالى «وبما فضَّل الله بعضهم على بعض».
فالمقصود بعضهم على بعض انه تفضيل بعض النساء على بعض الرجال كما يفضّل بعض الرجال على بعض النساء تبعاً للقدرة المادية والاتزان النفسي والعقلي والأخلاقي والديني،
إذن بعض النساء أعلم وأفهم من بعض الرجال عملياً، فإنّ كثيراً من النساء ينفقنَ على بيوتهنَّ وأطفالهنَّ في ظلّ وجود رجل لا يعمل أو يعمل ولا يعطي من ماله لبيته شيئاً !
فهل هذه المرأة المسؤولة بالعقل والعاملة والمنفِقَةُ، ستظلٌّ مطالَبة بانتظار زوجها للموافقة على توقيعه على المعاملات وبينما هو رجل سلبي لا يتحمّل مسؤولية ولا نفع له بالبيت، بينما يعطيه القانون الحقّ في التصرف وهو لا يستحقه، ومنحه الحق في إدارة شؤون الصغار سواء أثناء الزواج أو بعد الطلاق؟ !
نصر بعد معاناة
كما عانت الأمّ المطلقة في السعودية تجارب أشدّ إيلاماً لعدم قدرتها على حضانة أطفالها، وسجلت وزارة العدل الكثير من حالات تعسُّف الأزواج بما أدّى إلى حرمان بعض الأولاد «المحضونين» من حقوقهم المدنية، وتأخر بعضهم في الدراسة إثر المساجلات بين الأبوين. وأخيراً، تمكّن القضاء السعودي من منح الأمّ حقّ الحضانة لصغارها.
وتتنوّع نصوص قوانين الحضانة وما يترتب عليها في دول الوطن العربي، كما انها تتفاوت في مدى إنصافها لكلّ من الأمّ والأب، ولكنها غالباً ما تتجاهل النصوص القانونية التي تؤمّن المصلحة العليا للصغار عندما تتصل بالظروف الاقتصادية، حيث انه في كثير من الأحيان يُحكَم بـ «النفقة» بمبالغ هزيلة جداً لا تكفي حتى لاستئجار منزل، ومن ثم لا تستطيع الأمّ كفاية صغارها، وقد تضطر أمام قسوة الظروف الاقتصادية للتنازل عن الحضانة لعدم قدرتها على تأمين نفس مستوى المعيشة لأطفالها قبل الطلاق، وفي حالات أخرى يرفض أهل الأمّ تربية أبنائها في منزلهم، ولا تستطيع الاستقلال في منزل منفصل خوفًا من التهديد.
تشابه القوانين
تتشابه قوانين الدول العربية المتعلقة بالحضانة، ففي 11 دولة غالباً ما تنتهي حضانة النساء للذكور في سن أقلّ منه للإناث، باستثناء الأردن والمغرب. ففي الأردن، تمّ تعديل قانون الأحوال الشخصية عام 2010 لتمتدّ حضانة الأمّ لطفلها أو طفلتها حتى سن الخامسة عشرة.
وتتعدّد المشكلات الاجتماعية عند حضانة الأمّ للصغار، عندما تتزوّج فإنه يسقط حقّ حضانتها ما عدا المغرب، حيث يمنح قانون الأحوال الشخصية المغربية الأمّ حضانة أبنائها بعد زواجها حتى يصلوا سن سبع سنوات.
في المقابل، لا تنص القوانين على سقوط حقّ الحضانة عن الأب في حالة زواجه، بل تشترط قوانين الحضانة في بعض الدول وجود من يرعى الصغير من النساء في منزل الأب إن كانت له الحضانة.
منهج نفسي وديني
ويجمع المتخصصون على أنّ الأصل في الشريعة الإسلامية أن تكون الحضانة للأمّ. لذا، فإنّ بعض أهل العلم يرون أن الحضانة تكون للأمّ ومن بعدها لأمّ الأمّ، وما يترتب عليها من حق النفقة باعتباره حقاً شرعياً.
على الصعيد النفسي، فإنّ المتخصصين يُجمعون على ان الطفل خلال السنوات الخمس الأولى من حياته يحتاج الى الكثير من الرعاية والحنان والاستقرار الداخلي. وانّ وقوع أيّ صراع بين الأبوين يصيب الطفل بالنقص في الإشباع العاطفي ويظلّ متقوقعاً داخل نفسه.
كما يُجمع الأخصائيون النفسيون انّ فترة ما بعد الطلاق التي ينتظر الطفل فيها الحكم بالحضانة لأحد الأبوين، تكون من أكثر الفترات العصيبة التي تمرّ في حياته، حيث إنّ كلاً من الأبوين يحاول جذبه تجاهه وإقناعه بأنه ينتمي إليه وإلى أسرته ولا ينتمي إلى الطرف الآخر، وهي محاولة منهما لتشكيل هويته، مما يجعله يعيش في صراع شديد يصوّره كالسلعة التي تشترى ولا يراعى فيها ضعفه وإنسانيته. وتأثير هذه المرحلة تمتدّ مع الطفل إلى الرجولة فتتأثر ملامح شخصيته وسبل اتخاذه قراراته.
أهمية الحضانة
يحقق الحكم بحقّ الحضانة لصالح الأمّ نوعاً من الاستقرار لنفسية الطفل، يمكنها بالتصرف نيابة عنهم أمام الجهات الرسمية ما عدا السفر، وإنهاء تعسّف أو مساومة بعض الأزواج في أمور تتعلّق بمصالح الأولاد في المدارس والمستشفيات دون السفر.
أخيراً، فانه بعد ما تحقق للمرأة من مكسب بحقّ الحضانة، إلا أنها تعاني الأمرَّين من تعسُّف الزوج في دفع نفقات الصغار، وعلى مشرّعي القوانين ان يكفلوا ضمان هذه النفقة للأمّ حتى تتولى رعاية صغارها مادياً.
في تصوّري أيضاً أننا بحاجة إلى إضفاء قدر من المرونة بالقوانين الشخصية، حيث لا يسقط حقّ المرأة في حضانة صغارها إذا ما اضطرت الى الزواج بدافع الضغط الاقتصادي.
وفي عصر التكنولوجيا والقرية الكونية لا تزال المرأة تُحرَم من حقّ الحضانة إذا ما اضطرًّت للسفر للعلم او العمل، رغم انّ الاتفاقيات القضائية بين العديد من الدول تسهِّل إمكانية رؤية الأطفال، المهمّ أن يبقى بإمكان الوالدين رؤية أطفالهما للمحافظة على التواصل والأمن النفسي لهم، والمهمّ أيضاً ان نحافظ على السلامة النفسية والاجتماعية للصغار حتى ولو اضطر القضاة الى تمديد فترة الحضانة للأمّ بما يكفل السلامة النفسية والاجتماعية للأطفال.
كما ينبغي ان ينهض أصحاب العقول والضمائر الحية من الرجال والنساء، لتعديل القوانين التي تحرم المرأة من أهليتها في التعامل الرسمي لمتطلبات أبنائها من أوراق المدارس والجامعات وغيرها، وعلى الإعلام العالمي ان يبذل جهده لتغيير النظرة الدونية للمرأة، ويكفُّ عن تصويرها على أنها فاقدة الأهلية للتصرف في إدارة شؤون أبنائها.