المقاومة تقترب من العودة لمعادلة قبل الـ 2000
ناصر قنديل
– خلال مرحلة ما بعد العام 2000 وإنجاز التحرير، اعتمدت المقاومة معادلة جديدة تتيح حيزاً أعلى بكثير لإعلاء حجم دور مؤسسات الدولة في إدارة الصراع مع الاحتلال، وكانت عمليّة بناء قدرات المقاومة اللازمة لتشكيل معادلة ردع تمنع الاعتداءات الإسرائيلية بعد التحرير، مختلفة جذرياً عن تلك اللازمة لفرض الانسحاب على الاحتلال، وتحتاج إلى الوقت وإلى الصمت. وهذه المعادلة لم تكن كما يفترض البعض ثمرة لمشاركة حزب الله بالحكومات بعد العام 2005، وما حدث خلال حرب تموز 2006 قال للمقاومة شيئين متعاكسين، الأول إن معادلتها ببناء قدرة الردع قد حققت الهدف عبر النصر التاريخيّ على أقوى جيوش المنطقة وأحد أقوى جيوش العالم في حرب شبه نظاميّة، من جهة، ومن جهة مقابلة، أن الداخل اللبنانيّ لم يتعافَ من الأمراض التي رافقت مرحلة التحرير، وسعي أطراف كثيرة في السلطة وخارجها لتحويل التمايز السياسي إلى استعداد لمنح الاحتلال خدمات مجانية طلباً للتقرب من الأميركي، ومراعاة لاتجاه دول عربية إلى التطبيع مع الاحتلال.
– ما جرى في عملية الطائرات المسيرة التي أطلقتها المقاومة تأكدت خلاصات حرب تموز المتعاكسة، حيث تقول كل ردود الأفعال الصادرة داخل الكيان والنقاشات التي رافقتها عسكرياً وسياسياً، أن المقاومة سجلت ربحاً كبيراً بالنقاط على جيش الاحتلال، وطرحت معادلة جديدة داخل قياداته السياسية والعسكرية، عنوانها الشعور بالعجز عن توفير الحماية بالوسائل العسكرية والأمنية لمنع استهداف منصات الغاز، واستحالة المضي قدماً بعمليات الاستخراج دون الأخذ بالاعتبار مخاطر ما تمثله معادلة المقاومة، والتسليم بخطورة إدارة الظهر لتهديدات المقاومة باستهداف منصات الاستخراج، دون التعامل مع خطر نشوب حرب لا تسيطر «إسرائيل» على نتائجها، بينما أميركياً وأوروبياً بدأت التساؤلات حول كيفية إدارة ملف الغاز بغير الأخذ بالاعتبار كيفية تفادي تصاعد تهديدات المقاومة، التي أثبتت عبر تفاصيل العملية حجم الارتباك الإسرائيلي الممتد لأكثر من 15 دقيقة، بما يتيح للمقاومة تدمير منصات الغاز لو كانت تريد ذلك، أو عندما تريد ذلك، بينما في الداخل اللبنانيّ ذات الحصيلة المسجلة عام 2006، ومثلها المسجلة عام 1983 مع انطلاق المقاومة بالتوازي مع المسار المهين للمفاوضات التي انتجت اتفاق 17 أيار بوساطة أميركية مماثلة، وعود أميركية مماثلة عايشها ويعرفها عن كثب وزير الخارجية عبدالله بوحبيب من موقعه يومها كسفير للبنان في واشنطن، لكن تلك الذاكرة التي لم تظهر دروسها في موقف الوزير، تبدو معدومة عند الآخرين.
– فتحت قضية ثورات الغاز والنفط الباب لنقاش وتقييم من نوع آخر لدى قيادة المقاومة. فالمسألة لم تعد بناء قدرة ردع تكفي لمنع العدوان، بل كيفية تعامل المقاومة مع عدوان قائم شخصته المقاومة بالتشبيه الذي أطلقه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بين حقول النفط والغاز والشريط الحدودي المحتل، والأمر لم يعُد أيضاً بكيفية تعامل المقاومة مع مؤسسات الدولة في قضية الموقف من الانتهاكات الإسرائيلية المتمادية بحراً وجواً، لأن مؤسسات الدولة تتولى إدارة ملف التفاوض حول ثروات البحر السيادية، بوساطة أميركية، في قلب ضغط أميركي عالي الوتيرة، مستمر ومتواصل لإسقاط لبنان منذ العام 2017، ولم يخف المسؤولون الأميركيون أنهم يقفون وراء خطة لتفجير لبنان تحت تأثير الانهيار الاقتصادي، للنيل من مقاومته خدمة لكيان الاحتلال، الذي أظهرت قضية النفط والغاز أحد أبعاد أهداف هذه الضغوط، كما أظهرت أزمة الطاقة العالمية أهميتها بالنسبة للكيان. وهذا يعني أن ترك المعادلات الداخلية تحسم تلقائياً توازن القوى الذي سيدير العلاقة مع هذه الضغوط الأميركية، سوف يعني نتيجة مشابهة لنتائج تولي المعادلات اللبنانية لحسم مسار الملف المالي، وبالتوازي أيضاً يشكل ملف النفط والغاز، وفقاً لتوصيف المقاومة المصدر الوحيد الذي يمكن التعويل عليه للخروج بلبنان من قاع الانهيار الذي يقبع فيه، والمعرّض للمزيد من التقعر، والزمن في هذا الملف أكثر من حاسم لمنع ضياع هذه الثروات، ما يعني أن الأمر لا يشبه مزارع شبعا المحتلة حيث يحتمل الأمر التعامل مع ميوعة رسميّة، ومع مرور زمن لن يغير في الجغرافيا. وكل هذه العناصر ترفع مكانة هذا الملف الى مستوى الأولوية الاستراتيجية بالنسبة للمقاومة.
– قبل العام 2000 كانت المعادلة بين المقاومة ومؤسسات الدولة تقوم على أن الدولة هي من يحدّد خط الحدود، فلا تطالب المقاومة مثلاً بالقرى السبع المحتلة رغم قناعتها بلبنانيتها طالما أن الدولة تعتمد خط الحدود الدولية الذي يمنح هذه القرى لكيان الاحتلال، لكن المقاومة تتولى منفردة صياغة تكتيكات وتوقيت العمل المقاوم لفرض الانسحاب على جيش الاحتلال، ما يعني أن الدولة أنهت مهمتها بتحديد ما تقبل وما ترفض وفق عرضها المقدم للوسيط الأميركي، والذي قد لا يرضي المقاومة لجهة التخلي عن الخط 29، لكنه يكفيها بتمسكه بوقف الاستخراج من حقول بحر عكا حتى انتهاء التفاوض والتوصل لاتفاق منجز. ومن هنا تبدأ مهمة المقاومة لفرض جلب الاحتلال إلى التسليم بشروط وطلبات الدولة اللبنانية، ابتداء من وقف الاستخراج، وصولاً لقبول الخطوط اللبنانية غير التفاوضية.