التّفاعلات النّصيّة في ديوان «أغاني شيراز» للشّاعر محمد حسين بزّي
د. دريّة فرحات*
إنّ عناصر الموازي النّصيّ وكلّ العناصر الملحقة بالنّصّ، وما يمكن أن يحتويه من تناص يسهم في أن يمنح العمل الأدبي اسم الكتاب. من هنا فإنّ ديوان “أغاني شيراز” عنوان يأخذنا إلى عوالم متعدّدة، أوّلها إلى مدينة شيراز مدينة الشّعراء والأدب، وثانيها إلى لقبها المشهور بأنّها مدينة العشّاق، وثالثها إلى المدينة التي ذخر فيها أهل التّصوّف. ومن هذه المعطيّات الثّلاثة نذهب إلى ما تحقّقه هذه العتبة النّصيّة من وظائف العنوان التي أشار إليها جيرار جينيت، والعنوان هو من أهمّ العتبات النّصيّة التي توضّح دلالات النّصّ، واكتشاف معانيه الظّاهرة والخفيّة، من خلال التّفسير والتّفكيك والتّركيب، وعليه يُشكّل العنوان المفتاح القادر على فهم النّص، وسبر أغواره. ومن وظائف العنوان هنا هو الوظيفة الإغرائيّة التي تقودنا إلى تكهّن قصائد الدّيوان وهل لها علاقة بالتّصوّف.
والانطلاقة الثانية التي تلفتنا في الدّيوان هي العتبة النّصيّة المرتبطة بالإهداء، فيهدي الشّاعر محمد حسين بزي الدّيوان إلى «عمري الذي مضى بين الظّلال والشّمس»، في هذا الإهداء تجاوز عن المعتاد والمتعارف عليه، هو إهداء إلى (أنا) الشّاعر، وتحمل الكلمتان الظّلال والشّمس أبعاداً دلاليّة متعدّدة، وفيهما رموز وإشارات قد نربطها بدلالات عنوان الدّيوان، فنعود إلى التّصوّف فنرى دلالة الظّلّ في الاصطلاح الصّوفيّ تأخذنا إلى كلّ ما سوى الله من أعيان الكائنات، ويعني أيضاً وجود الرّاحة خلف الحجاب. أمّا الشّمس ففي أبعادها الصّوفيّة هي نور بصر القلب الذي لنفس الرّوح والعقل كما يقول الشّيخ سهل بن عبدالله التّستري، ويرى الغزّالي بأنّ الشّمس إشارة إلى العقل المجرّد، أمّا ابن عربيّ فيرى أنّ الشّمس كناية عن الرّفعة. والشّمس نقطة الأسرار ودائرة الأنوار.
والانطلاقة الثالثة هي التّناص التّضمينيّ الذي برز في الدّيوان؛ وخصوصاً مع إيراد قصيدة الشّيخ ابن عربيّ في قصيدته التي يقول فيها:
أدين بدين الحبّ أنّى توجّهت
ركائبه، فالحبّ ديني وإيماني
ويحاكي الشّاعر هذه القصيدة بقوله:
أوَ أُسألُ عنّي عن نسبي
عن ديني والأحساب
أنا سيدتي من آل الحبّ
وأبرأُ منْ كلّ الأنسابِ
ففي هذه الأبيات إشارة واضحة إلى قاعدة مهمّة من قواعد التّصوّف وهو الحبّ. فالحديث عن التّصوّف لا يكتمل بمعزلٍ عن الحبّ، يقول ابن حزمٍ الأنْدَلُسِيّ حاكياً عَن الحُبّ الإنسانيّ: «دَقّتْ معانِيه لِجلالتِه عَنْ أنْ تُوصَف، فلا تُدركُ حقيقتُها إلّا بالمُعاناة». وهذا الحبّ الإلهي يقوم على الحبّ الإنسانيّ، ويتحوّل حبّ المرأة إلى حبّ ينتمي إلى الكمال العرفاني كما يرى ابن عربي. وقد لمحنا ذلك في شعر بزّي:
عيناك هُويتي
وجواز عبوري
فكوني سفري للمستحيل المنتظر
تبدو المرأة هنا رفيقته في السّفر، وهي جواز عبوره إلى العالم الآخر الذي ينشده في الوصول إلى الحبّ الإلهي، وهي الوحيدة القادرة على إعطاء الحياة معنى عميقاً مهما قسا الزّمن. فالشّاعر هنا يتّخذ من المرأة رمزاً موحياً على الحبّ الإلهي، وهذا من سمات الصّوفيّة، فالمرأة هي رمز الجمال المطلق، وهي القادرة على كشف المستور فيقول في نصّ «أسرار حبيبتي»:
وسأكشف عن روحي
كلّ الشّعرِ
بكلّ حكايا العشقِ
المنصوبِ
بضمّة غيب…
وسأنشر
روح قصائد
من عينيها
انتشرت
وإذا عبّر الشّاعر عن حبّه للمرأة أو تغزلّ بها؛ فهذا لأنّها تعبّر عن الحقّ والجمال، كما يرى الصّوفيون، وقد جاء في الدّيوان العديد من القصائد التي تكون في صورتها الظّاهرة حديث عن المرأة وفي باطنها تعبير عن رمزية المرأة في الشّعر الصّوفي، ومنها:
كم أبدعتِ
باتقانٍ
تفكيك مسافة
ما بين السّرّ
وبين البوح
هو البوح الوجدانيّ الذي يسبر أغوار النّفس وبواطن الأمور، وفي ختام القصيدة يُشير إلى بقاء كتب الأسرار في قلب العارف، مع الإشارة إلى رموز صوفيّة لها دلالتها في التّعبير عن الحقّ المطلق:
ثلاثة كتبٍ للأسرار
يستودعها
قلب للعارف
ثم يرتلها بالنّور
وتتلوه بالنّار
وهكذا، فإنّ الشّاعر هنا ينهج ما يراه الصّوفيون من أنّ إدراك المطلق يكون من خلال كائنات هذا العالم، والمرأة واحدة من هذه الكائنات التي يشّع الجمال الإلهي منها، وقراءة هذه المقاطع الشّعريّة تثير مسألة تأويل رمزية المرأة فلعلّها تكون دالّة عن روح الهائم في ملكوت الخالق:
لمْ إنْ مشيتِ،
الأرضُ زادت رفعةً..؟!
وأنا الذي
ما ارتدّ طرفي
قبل أن تلج السما
إنّ تجربة الشّاعر هنا تلتقي مع تجربة الشّاعر الصّوفيّ فيكون البحث عن الباطن، والابتعاد عن المباشرة، وهذا ما يُعلي من شأن الخيال، ويحثّ المتلقي على استكشاف المضمر. ومن هنا، فإنّ اللجوء إلى الرّموز سمة تساعد الصّوفي للتّعبير عن وجدانه ومعارفه، وكما يقول النّفري «كلّما اتّسعت الرّؤية ضاقت العبارة»، والرّمز قادر على إظهار التّجربة الوجدانيّة الصّادقة.
ومن أهمّ هذه الرّموز الصّوفية البارز في ديوان «أغاني شيراز» الحديث عن الخمرة، يقول بزي:
أنا لست هنا
فحبيبي ناداني
ولنار العشق
غدوت له جمرا
والشّعر
على شفتيّ ثملٌ
ولعَمري
لم أنطق إلّا خمرا
الشّاعر هنا يرى نفسه في عالم آخر، والنّداء يأتيه من هذا العالم، لهذا فهو لم يعد هنا، وقد نراه يعيش حالة السّكر التي تسبّبها الرّغبة في تلبية نداء الحبيب، ولن ينطق إلّا خمراً ليدلّ على العلم والمعرفة، وما ثملُ الشّعر إلّا شعور الغبطة والوله والشّوق إلى هذا الحبيب، وهذا يجعل الحجاب مكشوفاً بينه وبين مَن يناديه:
بين الضوء والماء
وما زلت أنا
محجوباً
إلّا عنك…
إنّه الضوء أو النّور الذي يشير إلى الإدراك والمعرفة والخلاص، والرّمز معنى باطن مخزون تحت كلام ظاهر، كما يقول الطوسي. ومن هنا فإنّ الشّاعر محمد حسين بزي يرى نفسه قادراً على أن يزيل الحجاب بينه وبين خالقه عبر المعرفة، فكان التّلازم بين الضّوء والماء، وما الماء إلّا رمزٌ للتّعبير عن اتـّساع المعرفة والعلم، وفي مقطع آخر يقول:
وأين يشاء
وجهك كن
فأنت النّور والماء
يعبّر الشّاعر عن علاقة بين عاشق ومعشوق، ويرى وجهه في أي مكان يشاء، فهو المعرفة الكاملة وهو الخلاص النّهائيّ.
إنّ الغوص في أعماق هذا الدّيوان قادتنا إلى بعض ما فيه من رموز صوفيّة، من خلال المؤشرّات الدّالة على ذلك، وإنّ البحث في حقوله الدّلالية قد تقود إلى فضاءات متنوّعة، ومنها الحديث عن الوقت والعمر والموت، ولن يكون الموت إلّا البداية لحالة عرفانيّة، وللوصول إلى الحقيقة:
لكن بموتي
سأصبح بصير
وإذا حمل ديوان «أغاني شيراز» بعض اللمحات الصّوفيّة، فإنّ في الدّيوان قضايا أخرى بارزة ومهمّة، كما يبدو التّماهي من قبل الشّاعر مع شخصيّات أسطوريّة وتاريخيّة ودينيّة وقياديّة وموسيقيّة، يستلهم منها عمق التّجربة والمعرفة، وقد تكون هذه الإشارات منطلقاً جديداً نرى فيه الدّيوان من رؤية أخرى، فيضيف الخطاب الشّعريّ دلالات جديدة على الإشارة الصّوفيّة منطلقاً من الدور الفعّال للعتبات النّصيّة، فبقدر ما تعطي للمؤلّف صيغة الكتاب فإنّها أوّل باب للتّأويل وطريق نحو الدّلالة.