أنطون سعاده… لحظة تأمل
ناصر قنديل
– يستحقّ أنطون سعاده الذي استشهد عن 45 عاماً أمضى نصفها في بناء حزب عقائدي منظم على أخلاقيات نادرة ووطنية صافية وفكر مبهر، لحظة تأمّل في هذه السيرة الاستثنائية المكرّسة لفكرة اسمها النهضة، أطلقها سعاده ولا يزال صداها يتردّد من بعده، ولعلّ ذكرى استشهاده المليئة بالمعاني التي تسلط الأضواء الكاشفة على شخصيته والتزامه ويقينه بعقيدته وحزبه مسيرة التحرّر التي أطلق شرارتها، فرصة لمثل هذه اللحظة من التأمّل، ولعلّ الذين تسنّى لهم الاطلاع وإبداء الإعجاب بأفكار سعاده، وخصوصاً الذين انتموا لعقيدته وحزبه أن يخصّوه بلحظة التأمل هذه، وأنا واحد من الذين قرأوا مبكراً لسعاده وأعجبوا بعبقريته، وأدهشتهم شخصيته الفذة، وأذهلتهم شجاعته المؤسّسة على اليقين بصدق الإيمان بالأمة والعقيدة والحزب، وأحد الذين تعرّفوا على الحزب الذي أسّسه من موقع القرب، وآمنوا وما زالوا يؤمنون، بأنّ هذا الحزب ثروة وطنية وقومية فريدة، بصدق إيمان القوميين بعقيدتهم، بلا طائفيتهم، ببسالتهم، وأخلاقياتهم، ودرجة ثقافتهم، بنبل الخلاف والاتفاق معهم، لدرجة كنت ولا أزال أعقد الكثير من الآمال على نهضة هذا الحزب الذي حمل لواء النهضة، وينتظر من قادته ومنتسبيه أن يظهروا للزعيم المؤّسس في يوم شهادته أنّ حزبه باق وسينتصر…
– يمر قرن على بدايات كتابات سعاده التي تحوّلت لاحقًا الى عقيدة، وقد ظهرت أولى كتاباته وهو في الثامنة عشرة من عمره عام 1922، حين بدأ نجمه يسطع وهو في هذا العمر كمفكر وكاتب ومناضل في الجالية السورية التي كانت تضمّ أبناء البلدان المنتمية لسورية الطبيعية، في البرازيل، وهو يطالب بإنهاء الاحتلال الفرنسي واستقلال سورية، مستشرفاً مشروع الحركة الصهيونية وخطره على سورية الطبيعية رابطاً بين وعد بلفور بوطن قومي لليهود في فلسطين وبين اتفاقية سايكس بيكو التي قسّمت سورية الطبيعية إلى خمس كيانات، وهذه السيرة رسالة لشباب بلاد الشام والشباب العربي عموماً، الاقتداء بسيرة شاب من بلادنا، لم تكن متاحة في أيامه وسائل تسهيل البحث والاطلاع، لكنه تمكن بعد معاناة وجهد ومثابرة من الوصول الى أعيان الكتب والمراجع الفلسفية والتاريخية والجغرافية والسياسية ليصوغ قبل أن يتمّ الثلاثين من عمره فلسفته العبقرية التي فاجأت مثقفي عصره وفتحت الباب واسعاً لنهضة كان هو رائدها.
– في عقيدة سعاده معادلات زادها العمر تألقاً بخلاف ما أصاب الكثير من العقائد من شحوب، فوحدة الحياة بين كيانات بلاد الشام تزداد حضوراً كضرورة لحلّ كلّ المشكلات الأمنية والاقتصادية، حيث تكامل المقدرات وحده يجعل السوق الواحدة التي يمكن لقيامها بين هذه الكيانات باباً لرفاه شعوبها وتعزيز استقلالها، ومحورية قضية فلسطين ومقاومة المشروع الصهيوني في أيّ مشروع نهضوي لم تعد موضوع نقاش، بعد عقود أثبتت أن لا استقلال ولا استقرار ولا تنمية في أيّ من كيانات المنطقة ما دامت اليد العليا لجيش كيان الاحتلال فيها، وأنّ المقاومة المسلحة الهادفة لإزالة هذا الكيان الغاصب لفلسطين كانت ولا تزال مهمة وطنية لكلّ بلد من بلدان المنطقة بمثل ما هي مهمتهم القومية، أما التحذير من خطورة أمراض التفتت والتشرذم على أساس طائفي، وتقديم رؤية لعلمنة متصالحة مع الدين، تميّزت عن العلمنة الأصولية التي تقدّم بها عدد من الذين استنسخوا النموذج الغربي، فتبدو اليوم حاجة ملحة لحماية السلم الأهلي في بلدان المشرق، وشرطاً ملازماً لبناء الدولة الوطنية.
– الأهمّ في ما فعله سعاده هو أنه بنى حزباً عملاقاً خلال سنوات قليلة، يشبه عقيدته، فصار وجوده خطراً داهماً على ثلاثية الصهيونية والطائفية والتجزئة، وتلاقت القوى المستفيدة من هذه الثلاثية لتدبير اعتقاله واغتياله، تاركاً وراءه حزباً مكوّناً من عقائديين يتنفّسون العقيدة ويذوبون فيها، فهي ليست شيئاً برّانياً عنهم يتعاملون معه في أوقات الفراغ أو الأوقات التي يخصّصها القومي للخدمة الحزبية، فصار القوميون مجتمعاً يشبه النموذج الذي يدعون لقيامه، وليس عابراً أبداً في مسيرة سعاده نجاحه في استقطاب نماذج ثقافية بارزة من أمثال غسان تويني وفؤاد سليمان وسعيد تقي الدين وأدونيس ويوسف الخال ومحمد الماغوط وهشام شرابي وكثيرين سواهم، تحوّلوا بفضل مساحة الثقافة التي يتميّز بها مريدو سعاده، وتتميّز بها حلقاته الحزبية، الى رواد نهضة ثقافية في مجالات أبدعوا فيها وصاروا فيها قيماً مضافة.
– لا أعتقد أنّ أبناء سعاده يحتاجون إلى من يقول لهم اليوم، أنهم مطالبون بالبرّ لسعاده بما راهن عليهم بتحقيقه، باذلاً دمه وروحه عربوناً لهذا الرهان، يوم قال على مذبح الشهادة بشجاعة نادرة “تسقط أجسادنا أما نفوسنا فقد فرضت حقيقتها على هذا الوجود. انّ موتي شرط لانتصار قضيتي. أموت أما حزبي فباقٍ”.
– أمنّا بسعاده وآمنّا بحزبه، ونثق أنّ النهضة باقية، لكننا ننتظر لنشهد تجديد معمودية الولادة، فوضع الأمة ووضع لبنان ليس بخير، وللقوميين الكثير مما يقولونه وما يفعلونه، وما ليس لسواهم قوله أو فعله بهذا الصدد…