آخر الكلام
في تمّوز… زرقة البحر تغتصب طفولتي
} يكتبها الياس عشّي
مدينة اللاذقية، في أيام الصيف، مدينة مسحورة باللون الأزرق، وفقش الموج، ونوارسَ بيضٍ تحمل المدينة العاشقة، في جولة، إلى مدن الساحل السوري الذي لا ينتهي إلا عندما يعانق “قرطاجة”.
وأنا في العاشرة من عمري؛
تحاول ذاكرتي أن تلتقط هذه المرايا لأتماهى معها، فأدخل عشق المدينة التي علّمتني كيف أحبّ… كيف أحفظ الألوان على ظهر قلبي… وكيف أرسم بالكلمات شكل أترابي، وشكل الأزقّة، وشكل الأشجار، وشكل الصبايا وشقائق النعمان، وشكل الحزن؛
وأنا في العاشرة من عمري؛
أحاول أن أجد تفسيراً لما حدث في صباح الثامن من تموز من عام ألفٍ وتسعمئة وتسعة وأربعين،
أحاول أن أفهم الهمساتِ الهاربةَ من بيت إلى بيت، ومن حارة إلى حارة، ومن نافذة إلى نافذة،
أحاول أن أفهم كيف تصير الهمساتُ صراخاً، ووجعاً في العيون.
أحاول …
ولكن الألفاظ والعبارات كانت أكبر بكثير من صبيّ لم يتجاوز العاشرة من عمره، إنها ألفاظ من نوع آخر :
اغتالوا أنطون سعاده .
حكموا على الزعيم ولم يحاكموه .
مات سعاده أمّا حزبه فباق .
في ذلك اليوم الصيفي الحزين داهمتني زرقة البحر، واغتصبت طفولتي !
في ذلك اليوم، وكنت في العاشرة من عمري، تعرّفت على الحزب السوري القومي الاجتماعي .
يومها بدأت ولادتي الثانية،
ويومها بدأتُ أرسم حدود الرمال المنسحبة من اللاذقية إلى بيروت فأكتشف عري الاثنين، والمأزق الذي تعيشه ذاكرة البحر،
ويومها لم تخرج النوارس لرحلة الصباح، ولم تبترد الأشجار بمياه البحر،
كلُّ شيء بدا حزيناً… حزيناً… حزيناً حتى الموت !
ووحدي أكتشف أنّ في زاوية منّي يولد ضوء، ويولد رجل، ويولد إيمان برجل من بريق عينيه رسم ملامح أمّة كادت أن تضيع .
منذ أن حدث ذلك، واغتصبت زرقة البحر طفولتي، استقرّ أنطون سعاده فيّ وما زال، وما زلت أختبئ تحت عباءته، لأننا “إنْ كنّا أقوياء سار بنا إلى النصر”، وإن كنّا لا نزال نؤمن به سرنا معاً إلى الوحدة.