«الجرائم البيئيّة والتراثيّة والأثريّة بين الواقع والقانون» مؤتمر للجنة حماية البيئة والتراث المرتضى: وجودنا يعتمد على ثبات هويّتنا كمجموعة متماسكة حامية إرثها وتاريخها
نظمت لجنة حماية «البيئة والتراث والآثار» في نقابة المحامين مؤتمراً وطنياً للعام 2022، تحت عنوان «الجرائم البيئية والتراثية والآثارية بين الواقع والقانون» في بيت المحامي وبحضور النقيب ناضر كسبار، وزير الزراعة الدكتور عباس الحاج حسن، ممثل معالي وزير البيئة الدكتور ناصر ياسين، رئيسة لجنة حماية البيئة والتراث والآثار في نقابة المحامين في بيروت الأستاذة سندريلا مرهج وعدد من الشخصيات والفاعليات.
ناب عن وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى المحامي الدكتور الكسندر صقر كممثل للوزارة وقدم مداخلة بعنوان «مكافحة تهريب الآثار من لبنان وإليه ودور وزارة الثقافة – الجرائم البيئية والتراثية والأثرية بين الواقع والقانون» ومما جاء في المداخلة:
«شرفني وزير الثقافة القاضي محمد مرتضى بأن أمثله في هذا المؤتمر، وها أنا أتلو عليكم كلمته كما صاغها بنفسه».
وأضاف: «إن لبنان يحتضن تراثاً ثقافياً استثنائياً، ويختزن في ترابه تراثاً حضارياً عريقاً يمتد من العصر الحجري حتى أواخر القرن التاسع عشر. يتجلى هذا الإرث الحضاري على شكل مدن تاريخيّة ومعالم ومواقع أثرية. ومع مجيء المستشرقين إلى المنطقة أصبح يتداول بأسماء مدن وقرى لبنانيّة على اعتبارها مصدراً للقطع الأثرية، كما برزت في تلك المرحلة أسماء عائلات لبنانية وقناصل وإرساليات أجنبية ارتبط اسمها في التنقيب عن الآثار وبيعها في الأسواق العالميّة والمتاحف. فأصبح لبنان بمواقعه ومناطقه كافة منجماً لحضارات متنوّعة تدفع التجار والمتآمرين إلى السرقة والنهب… وقد اتخذ لبنان من خلال وزارة الثقافة تدابير عديدة لحماية تلك الممتلكات، منقولة كانت أو غير منقولة مادية أو غير مادية، وساعد في ذلك تشكل الوعي لدى المواطن حول أهمية الحفاظ على الهوية التاريخيّة بكامل تنوّعها.
ونظراً إلى موقع لبنان الجغرافي على البحر الأبيض المتوسط، أصبح بوابة عبور للقطع الأثرية وخاصة تلك الآتية من سورية والعراق لا سيما أن هذين البلدين العربيين لا يزالان وحتى تاريخه يتعرّضان لعمليات نهب وتدمير للحضارات الموجودة بأهداف عديدة غير مخفية، منها اقتصادية، مادية وأخرى لمحو هوية بعض الإتنيات، ما دفع لبنان إلى اتخاذ تدابير صارمة في منع الاتجار بالآثار ومواجهته».
وتابع: «يثير الوضع الحالي للتراث الثقافي في هذه المنطقة من العالم مخاوف جدّية. فالعديد من المواقع التاريخية والأثرية، التي أدرج البعض منها على قائمة التراث العالمي وعلى القائمة المؤقتة للتراث العالمي، تأثرت أو تتأثر بنزاعات عنيفة وأصبح بعضها مسرحاً لنزاعات مسلحة ولعمليات عسكرية. كما أن العديد من المواقع الأثرية لا سيما منها التلال الأثرية والمتاحف التي تعرّضت لأعمال التخريب والنهب، كل ذلك وضع لبنان بمواجهة تحديات كبيرة بالرغم من تواضع الإمكانيات المتوافرة على الصعيدين المادي واللوجستي.. ففي وقت كانت فيه المواقع الفينيقية في شمال أفريقيا وإسبانيا مثلا تحظى باهتمام كبير كان موقع كامد اللوز يتعرّض لأبشع أعمال الجرف من قبل الاحتلال الإسرائيلي… ومع الأسف، فإن أعمال نهب الممتلكات التراثية الثقافية استمرت في لبنان حتى بعد فترة الحرب».
وقال: «تعتبر مسألة تملك وحيازة الممتلكات الثقافية أو الآثار من المسائل الشائكة التي تثير شهية جامعيها والمتعاملين بها حتى ولو كان ذلك عن طريق التدمير أو التخريب أو حتى السرقة، الأمر الذي دفع بالمعنيين إلى دراسة هذه الظاهرة وتتبع عمليات التداول غير المشروعة لفهم السبب وراء تلك العمليات وكيفية حدوثها وتوثيق الأضرار التي لحقت بالمواقع الأثرية وتحديد ما إذا كانت العملية مجرد عملية نهب معزولة أم هي تندرج في سلسلة من عمليات النهب المنظمة. وتشير بعض الدراسات إلى أن الأهداف متنوّعة فبعضها مثلا استخدم كرسائل لمحو الهوية الوطنية فيصبح معها إثبات الحق بالوجود أمراً مستحيلاً أو لمحو حضور دينيّ أو أتنيّ. فعلى سبيل المثال إن ما حدث في جنوب لبنان وغربي سهل البقاع خلال الاحتلال الإسرائيليّ حمل ثلاثة أهداف:
1 ـ سرقة الآثار.
2 ـ تدمير المعالم.
3 ـ ومحو الهوية».
وأضاف: «في المقابل، فإن سرقة الآثار أو التنقيب غير المشروع لا يرتبط فقط بمحو الهوية. فـأسواق التحف ترتبط أيضاً بشكل أساسي بالاتجار بهدف كسب المال السريع أو تبييض الأموال أو تمويل مباشر لشراء الأسلحة لا سيما للمنظمات المتطرفة. كما أن بعض هذه العمليات يعتمد على إقامة شركة تؤمن استمرارية بعض المتاحف العالمية الكبرى من خلال تخزين اللقى الأثرية حيث تحفظ داخل المستودعات لسنوات يتمّ خلالها غسل هويتها ومصدرها الحقيقيين لتُعرض لاحقاَ بهوية جديدة خالية من أي شوائب لجهة أصالتها وطريقة حيازتها. وتعتمد الأسواق العالميّة على العرض والطلب. فكلما كثر وجود القطع الأثريّة المتشابهة تراجع ثمنها لا سيما في حالات تجميع المجموعات كما أنه وفي بعض الأحيان مع عبور القطعة من مكان إلى مكان، ومن قارة إلى قارة، يتم بيع المجموعة بسعر أعلى من قيمتها الأساسية. وبالمقابل تولت السلطات اللبنانية المعنية كافة مواجهة عمليات الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية على الصعيدين الوطني والدولي، حيث يحتل التعاون الدولي في مجال مكافحة الاتجار غير المشروع بالآثار مكانة في غاية الأهمية.
إن ما عانته الممتلكات الثقافية من أزمات وتهديدات واعتداءات خلال الأحداث اللبنانيّة أكسبت السلطات المعنية تجربة مميزة مشرّفة أثبتت جدارتها في حماية وضبط عمليات الاتجار. وقد اعتمدت تدابير صارمة لناحية ضبطها، ولناحية تسهيل عمليات الردّ والاسترداد عبر القنوات الملائمة. ويحمل العمل الوطنيّ بجدّيته أهمية كبرى لا سيما من خلال التركيز على: أولاً القوانين المحليّة بهدف الحفاظ على الذاكرة الوطنيّة واستثمار التنوع الثقافيّ لإحياء وتنمية المعرفة.
ثانيا: نشر الوعي حول أهمية الإرث الحضاري من خلال تنظيم ورشات عمل توعويّة لحث المجتمع المدني والجمعيات إلى التعاون مع وزارة الثقافة للحفاظ على الذاكرة الوطنيّة وتوريثها إلى الأجيال المستقبليّة ما يسمح بأن لا يبقى الإرث حكراً على بيئة معينة أو طبقة اجتماعية أو طائفة.
وثالثاً: من خلال المضي قدماً بتأهيل وترميم المواقع الأثرية.
فعلى صعيد القوانين والأنظمة الهادفة بشكل أساسيّ إلى حماية الإرث الوطني وخلق علاقة وطيدة بين المواطن وتراثه، أصدر لبنان منذ فترة الانتداب لغاية تاريخه العديد من القوانين والأنظمة المعنية في تنظيم التراث والآثار كما اعتمد تنظيم وإدارة صارمة في ضبط عمليات تنظيم التداول في الممتلكات الثقافية بهدف حفظها وصونها والحد من تداولها وصولاً إلى وقف رخص الاتجار بها وتصديرها. ومن أبرز النصوص والقرارات نذكر:
* استيراد الآثار القديمة (قرار رقم 651 تاريخ 10/10/1926)
* نظام الآثار القديمة (قرار رقم 166/ل.ر. 7/11/1933وتعديلاته)
* نظام معاقبة المخالفات المتعلقة بأنظمة الآثار القديمة والأبنية التاريخيّة (قرار رقم 225 تاريخ 28/9/1934)
تنظيم الاتجار بالآثار (قرار وزارة السياحة رقم 14 تاريخ 8/3/1988)
تجميد رخص تجارة الآثار ورخص التصدير (قرار وزارة السياحة رقم 8 تاريخ 27/2/1990)
قانون الممتلكات الثقافيّة (رقم 43 تاريخ 20/10/2008) الذي لحظ ونظم القطع الأثرية والإتنية والقطع الفريدة التي ترتبط بتاريخ الانسان وحركته.
كما وتم تنظيم عمليات التنقيب الأثري لا سيما الحفريات الطارئة والتي تعتبر مصدراً للقطع الأثرية الذي يمكن سوء استغلاله في حال عدم وجود تشريعات ترعى تنظيمه. فقد تمّ إصدار القوانين والمراسيم لزيادة إجراءات حماية الإرث الثقافي. وفي هذا الإطار، تم إصدار المراسيم التالية:
المرسوم رقم 3056 تاريخ 25/2/2016 ويرمي إلى «تنظيم الجرد العام للآثار القديمة المنقولة».
المرسوم رقم 3057 تاريخ 12/3/2016 ويرمي إلى «تنظيم آلية التدخلات الميدانية الأثرية التي تقوم بها المديرية العامة للآثار في مجال الحفريات الوقائية والإنقاذية».
المرسوم رقم 3058 تاريخ 12/3/2016المتعلق بـ «دمج وإعادة دمج الآثار غير المنقولة في الأبنية والمنشآت المدنية الخاصة والعامة».
ولا بدّ من الإشارة في هذا الصدد إلى أهمية المصادقة على الاتفاقيات الدولية المناسبة التي تنظم حماية الممتلكات الثقافية المنقولة وتجنّب الاتجار غير المشروع، والترويج له كاتفاقية يونيدروا لعام 1995 بشأن القطع الثقافية المسروقة أو المصدّرة بطرق غير مشروعة والتي لم يصادق لبنان عليها حتى الآن.
علماً بأن لبنان صادق على العديد من الاتفاقيّات الدوليّة في هذا الإطار.
اتفاقية حماية الممتلكات الثقافية في حالة نشوب نزاع مسلح لعام (1960)
اتفاقيّة حماية الممتلكات الثقافيّة في حالة نشوب نزاع مسلح لعام 1954 (البروتوكول الأول) (1960).
اتفاقية اليونسكو لعام 1970 بشأن التدابير الواجب اتخاذها لحظر ومنع استيراد وتصدير ونقل ملكية الممتلكات الثقافية بطرق غير مشروعة 1992.
اتفاقية اليونيسكو لعام 1972 بشأن حماية التراث العالمي الثقافي الطبيعي 1983.
اتفاقية حماية التراث الثقافيّ المغمور بالمياه لعام 2001.
اتفاقية الأمم المتحدة لعام 2000 لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود 2005.
اتفاقية اليونسكو لعام 2003 لحماية التراث الثقافيّ غير المادي 2007.
اتفاقية الأمم المتحدة لعام 2003 لمكافحة الفساد 2009.
وأما بالنسبة للاتفاقيات الإقليمية والثنائية، ففي العام 2017، وقّعت الجمهورية اللبنانية على اتفاقيتين ثنائيتين مع كل من جمهورية مصر العربية وروسيا في حين ما تزال الاتفاقيات مع العراق وبولندا عالقة».
وشدد صقر: «يساهم التنسيق مع السفارات الأجنبية في لبنان، والمنظمات الدولية والمحلية والقطاع الخاص والسلطات المحلية، على استرداد قطع تحمل شبهات حول طريقة حيازتها.
وحالياً تعمل وزارة الثقافة على استرداد قطع أخرى من الولايات المتحدة وهي مجموعة تعود لحفريات غير مشروعة جرى إخراجها من لبنان بصورة غير قانونية إضافة إلى قطعة مسروقة خلال سنة 1981 من مستودعات جبيل».
ومن الأولويات الوقائية والوصول إلى زجر الممارسات غير المشروعة، مروراً بالقيام بمساعي من أجل رجوع الممتلكات الثقافية إلى بلادها الأصلية، وضع سياسة تعبئة لمكافحة الاتجار غير المشروع والقيام بجهد حازم على مستويين متكاملين، وطني ودولي، وذلك من خلال الاستعانة بمجموعة من التدابير على مختلف الصعد وطنياً واقليمياً ودولياً.
وختم: «إن الهوية اللبنانية تحمل في تكوينها حضارات مختلفة ومتميزة ما يفرض حمايتها لكونها تشكل عاملاً مهماً ومساهماً في معرفة الأصول ومراحل تطور وتاريخ هذه الهوية، إذ يعتمد وجودنا على ثبات هويتنا كمجموعة متماسكة حامية لإرثها وتاريخها».