نافذة ضوء
الخطر في فقدان ثقتنا بنفوسنا
} يوسف المسمار*
إن الخطر الحقيقيّ القاتل هو في اضطراب أعصاب أحرار الأمة وأعزائها واستسلامهم للقنوط واليأس والملل.
والخطر الكبير يكمن في فقدان ثقة أعزاء الأمة بأصالة أمتهم وعزة نفوسهم، والشك بقدراتهم على تجاوز الصعاب والتصدّي لأعدائهم فينهار كيانها، ويتبخر مجدها، ويتلاشى تاريخها، وتـتوزّع علومها وآدابها وفـنونها وإبداعاتها على رعاع الشعوب وحثالاتها، ولا تجد لها مكاناً في العالم إلا مقابر التاريخ أو زوايا المتاحف المظلمة.
إن الأمم العظيمة هي العظيمة بأفكارها العظيمة، وشعبها الممتدّ في التاريخ والمستمرّ عظيماً في تعاقب الأجيال، وقادتها العظام الذين يقودونها من نصر ٍالى نصر ومن مجد ٍالى مجد دون أن تضطرب أعصابهم أمام المحن مهما اشتدت، ومن غير أن يرتابوا وتراودهم الشكوك بأصالتهم أو يفقدوا ثقتهم بأنفسهم وبأمتهم، بل يجدون دائماً بتوازنهم واتزانهم وعبقريتهم منافـذ النور، فيوقظون بمواقفهم وتوجهاتهم بنات الأمة وأبناءها، ويمدونهم بكل عوامل الثقة بالنفس والاعتماد على الذات، ويرتفعون أمام الملايين من أبناء شعبهم مشاعل هداية ونماذج بطولات، فينتفض أبناء الأمة وينهضون بفكر ٍنورانيّ باهر وإرادة قوية قاهرة تجعل كلّ من يفكّر بإذلال الأمة عبرة لغيره من الخونة في الداخل، ودرساً لكل معتدٍ يطمع بإذلالها من الخارج.
هكذا كان تاريخ أمتنا في الماضي ولا يزال مستمراً في الحاضر وليس المستقبل الا امتداداً متجدداً نامياً ومتطوراً للماضي المجيد والحاضر الذي تـُغيِّر فيه أمتنا تاريخ الإنسانية من سيطرة القطب الهمجي الجائر على الشعوب الى عهدٍ جديد هو عهد تلاقي وتفاعل أقطاب الأمم المتمدنة وتفاهمها وإرساء العلاقات في ما بينها على أسس التفاهم والتعاون والاحترام المتبادل للحقوق التي هي أساس كل حضارة وارتقاء كل مدنيّة.
لقد اعتادت أمتنا على قهر الغزاة على مرّ التاريخ
إنّ غزوات دول العدوان والامبراطوريات الهمجية المتوحشة على أمتنا منذ بداية التاريخ الجلي لم تتوقف ولا للحظة واحدة، وان صمودنا في العراك ومقاومتنا المتجددة باستمرار كانا دائماً ولا يزالان سمتنا البارزة التي تميّزنا عن سائر الأمم. ومخطئ من يظنّ أننا استسلمنا يوماً لغازٍ معتدٍ جائر مهما استعمل من أساليب الجور والتوحش والهمجية والقتل والمجازر.
لقد اعتدنا على ذلك، والاستشهاد البطولي أصبح لنا عادة وتقليداً، وجنود جيوش المعتدين تناثرت جثـثهم في جميع الاتجاهات، وأبيدت وتحطمت وتقهقرت كل الغزوات والاجتياحات.
فلا جيش الاسكندر المقدوني ثبت في العراك وأذلنا، ولا جحافل الرومان استمرّت على أرضنا تعيث فساداً، ولا همجيات هولاكو استطاعت أن تنتصر علينا وتدمر وتحرق مدننا، ولا غزوات قبائل الجاهليات العربية في الماضي صحـَّرت فكرنا وأجدبت خصوبة عقولنا، ولا جيوش أوروبا العدوانية تمكنت من كسر إرادة الصمود والقتال في شعبنا، ولا انكشارية العثمانية المتوحشة كان لها نصيب في شل عزيمتنا وإنهاء تاريخنا، ولا جيوش الانكليز والفرنسيين والأميركيين والصهاينة وأعراب الخيانة والنذالة اليوم وجميع عصابات المرتزقة والإرهابيين المجرمين تمكنوا ويتمكنون من تسجيل أي انتصار حاسم علينا وإجبارنا على الاستسلام منذ ما يقارب المئة عام.
إنهم يحاولون فرض الاستسلام علينا والقضاء على وجودنا وحضارتنا وتاريخنا بشتى الطرق والأساليب. بتمزيق بلادنا الى كيانات، وبتفتيت شعبنا الى طائفيات وفئويات ليسهل عليهم قهرنا وإبادتنا. لكن حتى على الكيانات والطوائف والمقاومات الصغيرة لم ينتصروا ولم يقدروا على قهر إرادة الحياة في طلائع أمتنا من العظماء الذين لم يزدهم تدفق الغزاة المجرمين على بلادنا الا ثباتاً وصموداً وعنفواناً واستخفافاً بأمواج المعتدين الأشرار.
فروح الأمة النابضة بالبطولة متغلغلة في كل كيان ولو كان قرية صغيرة. وشموخ الأمة كامن في كل طائفة ولو تحولت الطائفة الى مجموعة أفراد او فرد واحد. ففي فلسطين لم نستسلم ولا زال القتال مشتعلاً. وفي لبنان لم نندحر ولا تزال مقاومة شعبنا متوهجة. وفي العراق لم نعرف الذل والمهانة ولم يخضع شعبنا لتوحش جميع قوى العدوان رغم افظع الجرائم التي ارتكبت في عراقنا بأطفالنا وصبايانا ونسائنا ورجالنا وشيوخنا وصغارنا ومرافق حياتنا ومؤسساتنا وآثارنا.
وشعبنا في الشام اليوم لم يرعبه تحالف الحكومة الأميركية الجائرة، واليهودية الصهيونية الفاجرة، والماسونية المموّهة والمتخفية الغادرة، وعبيدهم من الأعراب الذين ختم الله على قلوبهم وعقولهم وضمائرهم فتخدروا واستسلموا وراحوا يتثاءبون ويشخرون في مراحيض الأعداء نذالة ً ونجاسة ً وحقارة، وسيعلم الخونة الأنذال الحقيرون وأسيادهم أن لا انتصار الا للأحرار الأعزاء الشرفاء الذين فرضوا حقيقتهم بإرادتهم على الوجود في الماضي، ويفرضونها في الحاضر وسوف يفرضونها في كل مراحل التاريخ.
الحرب مستمرة الى يوم الدينونة كما يقول إسلامنا المسيحي، والى يوم القيامة كما يعلن إسلامنا المحمدي، والى نهاية هذا العالم المنحط بأخلاقه وقيمه وتغيير وجه التاريخ كما قرّرت وتقرر إرادتنا، ولن يكون للمعتدين على بلادنا في بلادنا راحة الى أن يسلـّموا بحقنا في الوجود، واحترام حقنا في الحياة والتقدم، واحترام حقنا في تحقيق مقاصدنا ومرامينا الراقية، واحترام حريتنا في تقرير مصيرنا العزيز.
إن أفظع جرائمهم لا ترعبنا ولا تخيفنا بل تزيدنا إيماناً بأننا نحن على حق وهم على باطل، والويل لمن استبدل حقه بالباطل وتنازل عن عدالته للظلم، وباع عزته بالذل. والويل الويل للشعب الذي يفقد ثقته بنفسه فتضطرب أعصاب أبنائه وينهارون ولا ينالون في التاريخ الا العار واللعنة وازدراء الأمم العزيزة.
*باحث وشاعر قوميّ مقيم في البرازيل