بعد كلام السيد: المنطقة إلى الاستخراج النفطيّ المتقابل أو المنع أو… الحرب!؟
العميد د. أمين محمد حطيط _
عندما اعتمد الناتو في قمة مدريد 2022 مفهومه الاستراتيجي الجديد للعقد الحالي الذي ينتهي في 2030 ظهر واضحاً تراجع موقع الشرق في سلم الاهتمام الأطلسي لتتقدّم عليه كلّ من روسيا والصين باعتبارهما يشكلان لأميركا وللناتو، حسب رؤيته بالعين الأميركية، مصدر الخطر الاستراتيجي الأول الذي يُحدِق بالغرب، لكن هذا التراجع لم يعنِ أنّ الشرق الأوسط فقد أهميّته الاستراتيجية في عين الأطلسي، بل إنّ مَن يدقق في الأمر يجد أنّ الأطلسيّ وعلى رأسه أميركا لا يجد نفسه مضطراً لتخصيص جهده الأعظم لمسائل الشرق الأوسط وأنّ بإمكانه اعتماد أساليب جديدة تؤدي الى الاقتصاد بالجهد مع القدرة على تحقيق المطلوب.
وانطلاقاً من هذا التصوّر وبهذا الفهم يبدو انّ استراتيجية الغرب للتعامل مع منطقة الشرق الأوسط في العقد الحالي أرسيت على أركان خمسة أولها دمج الأتباع والحلفاء في مكوّن استراتيجي او مجموعة واحدة تقودها «إسرائيل» بإشراف أميركي، والثاني ضمان التحكم بالمعابر المائية واستمرار تدفق النفط والغاز الى الغرب، والثالث حصار الخصوم والأعداء ومنعهم من استثمار ثرواتهم ومواصلة الحرب الاقتصادية عليهم، والرابع التخدير والمماطلة والتسويف وعدم الاستجابة لأيّ مطلب او حق او مصلحة للطرف الآخر، وأخيراً التحضّر للعودة الى الميدان بحروب شاملة وواسعة اذا فشلت استراتيجية الإهمال والتسويف.
وتنطلق أميركا في فرضها العمل بهذه الاستراتيجية من تصوّر تراه هي أنه حقيقة قاطعة مفادها أنّ خصومها في المنطقة سيستسلمون لاستراتيجيتها لعجزهم عن الذهاب الى الحرب لكسر خططها ضدّهم، وترى انّ الحصار والحرب الاقتصادية التي فرضت عليهم مترافقة مع الحرب الإرهابية التي تستمرّ ضدّهم منذ نيف و11 عاماً، افقدت مجتمع الخصوم قدرته على تحمّل أعباء أيّ حرب قد تفكر قيادته بها وبات هذا المجتمع كما تراه أميركا لا يعبأ بقضية وطنية او قومية لأنّ همّه بكلّ مكوناته رغيف الخبز وحبة الدواء وصفيحة المحروقات، أيّ انّ همومه المعيشية حجبت كلّ شأن آخر أو أيّ اهتمام وطني او قومي او حتى ديني، ولذلك أطلقت أميركا في التعامل العام وفي التعامل مع لبنان بخاصة، نظرية ملخصها «لا أهمية لما تملك من حق او يُكسبك القانون من حق، إنما الأهمية هي لما تتمكّن من الحصول عليه مما تدّعيه حقاً لك».
وفي التطبيق العملي للمفهوم الأميركي الاستعلائي تصرف هوكشتاين بكلّ صلافة واستخفاف بلبنان وبسياسيّيه وبحقوقه في ثرواته البحرية، واعتبر نفسه في زيارته الأخيرة للبنان أنه أسقط المطالب اللبنانية بالخط 29 وأخرج حقل كاريش من منطقة التنازع، وضمن إحجام لبنان عن استعمال القوة في مسألة الترسيم البحري او الاستخراج النفطي والغازي من البحر، وبالتالي ضمن لـ «إسرائيل» مصالحها وترك لبنان يتخبّط في تنازلاته وصراعاته وفقره الذي قادته إليه الحرب الأميركية الاقتصادية التي شنّت عليه منذ ٣ سنوات بمقتضى خطة بومبيو.
وتمّ التأكيد على الاستخفاف بلبنان وبحقوقه من خلال ما أعلن أو ما تسرّب عن برنامج عمل بايدن في زيارته للمنطقة تلك الزيارة التي تنفذ من أجل أمن «إسرائيل» ودمجها في المنطقة وتنصيبها في موقع القيادة الإقليمية بإشراف أميركا عبر إرساء نظام إقليمي عسكري ـ اقتصادي ـ سياسي لمواجهة مثلث الصين روسيا إيران، وأخيراً لا بل أولاً لضبط تدفق النفط والغاز الى الغرب ليسدّ الفراغ الناتج عن الحرب الاقتصادية ضدّ روسيا وإيران، ولم يذكر لبنان إلا بجملة واحدة تضمّنت القول إنه في حال عدم استقرار.
في ظلّ هذه الأجواء الكالحة السوداوية، أطلق الأمين العام مواقف وطنية أعقبت مهمة مُسيّرات الرسائل وأكدت على مضمون تلك الرسائل التي حملتها، وأضافت إليها الكثير مما قلب الطاولة وفاجأ الأميركي و»الإسرائيلي» لما تضمّنته من مفاهيم ومبادئ تعتمدها المقاومة او تعدلها او تطورها لأول مرة في تاريخ مسيرتها الذي تحتفل في هذه الأيام بالسنوات الأربعين منها، ومن يتفحّص مواقف سيد المقاومة يقف عند صور جديدة بالغة الأهمية والخطورة، منها ما يتعلق بماهية المقاومة وطبيعتها ومنها ما يتصل بالنظرة للحرب وأسس المواجهة وأهدافها، ونكتفي هنا بذكر أربعة عناوين أساسية ستشكل برأينا محلاً للدراسة والتحليل من قبل العدو على النحو التالي :
أولاً في ماهية المقاومة: بعد أن كانت المقاومة قد أطلقت من أجل تحرير أرض لبنانية احتلتها «إسرائيل» في العام 1982، ثم تطوّرت بعد التحرير لتصبح مقاومة من أجل منع تكرار الاحتلال والعدوان، فإنّ الوظيفة او الشكل الجديد الذي تتمظهر به المقاومة اليوم وبوضوح كلي في كلام سيد المقاومة، هو انها باتت مقاومة من أجل المحافظة على الثروة اللبنانية وتمكين الدولة من استعمالها لسدّ حاجات الشعب ودفع الفاقة والفقر والجوع عنه، أنها مقاومة من أجل الإنسان وحقه بالعيش الكريم.
ثانياً في إرساء معادلة التوازن في الاستثمار النفطي والغازي، وهنا نذكر بأنّ المقاومة التي أبدعت في رسم معادلات الردع والدفاع وحماية السكان بدءاً من تفاهم نيسان 1996 الذي حمى المدنيين وصولاً الى معادلة الردع الاستراتيجي المتوازن الذي منع الحرب وقيّد العدوان «الإسرائيلي» على لبنان، انّ هذه المقاومة تطلق اليوم معادلة التقابل في مسألة النفط والغاز بين لبنان والعدو، معادلة تقول: إما استخراج من قبل الطرفين او منع الطرفين من الاستخراج.
ثالثاً في مسرح العمليات البحرية ومساحته، كانت الأجواء السائدة قبل كلمة السيد تشي بأنّ على «إسرائيل» أن تمتنع عن العمل في المنطقة المتنازع عليها المحدّدة برسالة لبنان الى الامم المتحدة والمعمّمة في 2/2/2022 بين الخطين 23 و29، أما الآن فقد انقلب المشهد وباتت معادلة التوازن في الاستثمار النفطي تتعدّى في أعمالها المنطقة تلك لتشمل كلّ استثمار «إسرائيلي» بما في ذلك المنطقة بعد كاريش وما بعد بعد كاريش، أيّ أنها تشمل أيّ استثمار بحري «إسرائيلي»، وربط الأمر بالوضع في لبنان دون ان يقتصر على مسألة الترسيم فحسب، بل يشمل أيضاً التمكين من الاستخراج أيضاً ومن هنا يفهم انّ كلّ المنطقة الاقتصادية لفلسطين التي تحتلها «إسرائيل» باتت وفقاً للموقف المقاوم الجديد مشمولة بالتحذير وتشكل بنك أهداف بحرية تمكنت المقاومة من تحضيره لتعامل معه عند الاقتضاء.
رابعاً في ماهية الحرب وضرورتها واللجوء اليها، هنا يمكن القول بانّ سيد المقاومة أحدث انقلاباً استراتيجياً في هذا الموضوع، حيث إنّ المقاومة كانت تشدّد دائماً على انها لا تخشى الحرب لكنها لا تسعى اليها، أما اليوم وبعد هذا التطوير في الموقف فقد باتت المقاومة في موقع قد يسعى الى الحرب من أجل منع الموت جوعاً، حيث إنها اذا خيّرت بين ان يموت مجتمعها جوعاً او يهدّد بحياته في الحرب فإنها ستختار الحرب لأنها السبيل الأشرف. وفي هذا رسالة قاطعة لأميركا و»إسرائيل» بأنها لن تُترك لتعبث بلقمة عيش اللبنانيّ وتحاصره وهي آمنة وتستفيد من الثروات، وعليها ان تنتظر انفجاراً يدمّر الهيكل على رأسها ويمنعها من تحقيق أهدافها.
وعليه نقول بأنّ مواقف السيد التي أطلقت مع اليوم الأول لزيارة بايدن للمنطقة، ستكون عاملاً فاعلاً في إحباط وإفشال هذه الزيارة وستجهض خطة العدوان الأميركي على لبنان، وفقاً لما ينفذه هوكشتاين وستضع المنطقة أمام خيارين: خيار العقل والاستثمار المتوازن الذي تتراجع أميركا و»إسرائيل» فيه عن خططها واستراتيجيتها الاستعلائية والتهميشية لمصالح لبنان وحقوقه، او خيار التعنّت والجنون الذي يقود المنطقة الى الحرب التي ستكون للبنان سبيلاً كريماً ينتزع به حقوقه ويمنع الاستخفاف به.
وقد تكون أميركا أقرب للخيار الثاني طالما أنها لن تشارك بجنودها فيها، لكن «إسرائيل» وفي واقعها السياسي والعسكري والاجتماعي والاقتصادي القائم لن تكون مرحّبة بخيار الحرب إلا إذا ألزمتها أميركا بها وعندها ستتكرّر مشهدية 2006 وبشكل أكبر وأفظع، المشهدية التي حتى اللحظة نستبعدها لكن لا نسقطها من بيان الاحتمالات الجدية وتبقى الأيام الـ 45 الآتية هي التي تحمل الجواب الحاسم.
*أستاذ جامعيّ ـ باحث استراتيجيّ