لا عِـبرة في الخِبرة
} حيّان سليم حيدر
وكان أن اجتاحت الليبرالية المُتفلّتة حياة الناس في كلّ زاوية من العالم، وكانت الديون بأرقامها الفلكية، وكانت معها… كانت القروض و”فوائدها” (كنت قد اقترحت في زمن غابر تسميتها مَضار وليس فوائد) وكانت معها “التسهيلات” المصرفية والتجارية (وهنا أيضاً اقترحت تسميتها “تعقيدات” مصرفية، ولكن… على مَن تقرأ مقتراحاتك…؟)
وتفاقم هذا النهج ليصبح “تِرنْداً” تجاريّاً، بمعنى نمط (trend)، وسرح اللبناني، بل ساح مع غيره في العالم، يعيش بالدَّين، يبالغ في الإسراف وفي الصرف وفي ابتداع الأفكار وفي أسْلَبَة (من أسلوب) الوسائل لخدمة هذا “الحلم”. بطاقات حمر زرْق ذهبية، فنية مهنية نخبوية، سمّها ما شئت من تسميات فخمة “معلّقة” على مشانق وعود ضخمة. وكان “تثبيت” الليرة لتحفيز الاستهلاك بخلق ازدهار افتراضي. نعم، تعدّدت الوسائل “الذكية” والاستهلاك واحد، ومقدار الذكاء يُقاس هنا بمقدار “الهَبَل” على مؤشّر المستهلك… الهالك، لا محال.
الصورة هذه ذكّرتني بصرصور لا فونتين (1) La Fontaine الذي يمضي صَيْفَه وهو يغنّي غير مبالٍ لشتائه ولمتطلّبات العيش. علماً أنّ “الصرصور اللبناني” هذا هو من صُنْف الذين يحتقرون مملكة النمل الشغّيل.
وفي يومٍ من الأيام… اختفت البحبوحة، وحلّت محلّها السحسوحة، وحلّ معها “استحقاق” تسديد الدين. وكلمة استحقاق، التي انتصرت في معركة الدستور، على كلمة موعد، تستحقّ كتابة مجلّد عنها ولكن في مجال آخر، ونعود.
الدين؟ قال الأخير، أيّ دين؟ فاتّضح للملأ أنّهم لم يوضّحوا للمسكين، حامل البطاقة اللمّاعة أو عقود القرض المُطيعة، أنّ هذه الإغراءات العاجلة هي ديون آجلة. فكانت الكارثة. وعجّت مكاتب الشكاوى بصراخ: “ما آلولي…”! وضجّت المخافر بسؤال: “ما أُلْتولو؟” وحكمت المحاكم: “القانون لا يحمي الجاهل، أم أنّ العبارة كانت: المُغَفّل”، فالبطاقة (المصرفية) تقول: “تديّن الآن وادفع لاحقاً”. لأ؟ لم يقولوا لك ادفع لاحقاً؟ أو أنّك لم تسمع؟ لا تريد أن تسمع؟
وربط المسكين حاله، الدَنية، بحال بلاده، الزَرية، مشتكياً باكياً: أين المساعدات التي حصّلها لبنان من باريس 1 و2 و3؟ أين وعود سَيَدُرْ؟ أين “الصناديق وقت الضيق؟” وهذا “الحلم” اللبناني أخذني إلى قول الاقتصادي الفرنسي الفذّ توماس بيكيتي (Thomas Picketty) الذي أكّد في إحدى أطروحاته: “أنّ الهبات والمساعدات التي تُمْنح في العالم هي عمليات تحويل أموال من جيوب الفقراء في الدول الغنية إلى جيوب الأغنياء في الدول الفقيرة”. هي، في الحقيقة، ليست هبات، أو حتى تجارة، بالمجّان، هي، في جزئها “الاستراتيجي”، سياسية في العمق، وأنت، أيها المُسرِف البسيط، أنت أداة استهلاكية سياسية لبلوغ هذه الغاية.
وفي هذه الحالة، وعندما قيل للمسكين المديون إنّ “الدول المانحة” أصبح لديها أولويات أخرى بعيدة عن مرمى لبنان وحاجاته، أجاب اللبناني بما ذكّرني بالقصة القصيرة الثانية وفيها: أنّ شابّاً عازباً دائماً ما كان يعطف بمئة من النقود على شحّاذ قائمٍ في زاوية الشارع. ومرّت السنون، وتزوّج الشاب وكثرت مصاريفه، فتناقصت عطاءاته لِـ”جاره” شيئاً فشيئاً. وكبر أولاده، هم ومصاريفهم، وصغرت مع ذلك العطاءات. ودخلوا إلى التحصيل الجامعي، فتعاظمت المطلوبات المالية، حتى بات الشاب، سابقاً، الأب المسؤول، لاحقاً، “يعطف” بعشر من النقود فقط على ذاك الجار الثابت في الشارع. ممّا أثار اعتراض الشحّاذ، فشرح الأب له وضعه وتعاظم نفقات التعليم عليه ليفاجئه الشحّاذ بالقول: “شو هلّق صاروا أولادك بَدُّنْ يتعلّموا على حسابي؟”
نعم… أصبحت “الدول و”صناديق الضيق” الصديقة” “تتعلّم” الآن على حسابنا، نحن اللبنانيين.
نعم. وسمعت المنكوب المسكين يردّد شطر المتنبّي: “أنا الغنيُّ وأموالي المواعيدُ”.
أيها اللبناني، لقد حلّ لاحقاً، وعليك أن تدفع حتى آخر مدّخرات أحفادك الآتية، إنْ أتت وأتوا… المدّخرات والأحفاد.
هذه قصة المغفّلين الذين لا يحميهم القانون، لا الوطني منه، ولا، أكيد، الدولي.
أمّا ذاك الذي كان مدرِكاً تماماً لشروط القروض وموجبات العقود، وكان محطاطاً، هكذا خُيِّلَ له، يحتفظ في ودائعه بمخزون ماليّ يكفي الوفاء بالديون الآتية، ذاك المخدوع من الكلّ، من الدستور والقانون والدولة والقطاعات، على اختلاف واجباتها ومسؤولياتها، فلا شك أنّ له قصصاً وعِبَراً تخرج عن نطاق فهمي للموضوع أو قدرتي على شرحه في هذه المختصرة، لربما أسعفنا قراءة كليلة ودمنة بشيء.
نعم، أيها اللبناني الفذّ… الكلّ سيتعلّم على حسابك.
(“) إنّ الكلمات الواردة بين “هلالين” قد لا تعني بالضرورة ما تعنيه.
La Fontaine – “La Cigale et la Fourmi”