أوكرانيا بين ديغول فرنسا وفرنسا ماكرون…!
د. عدنان منصور _
كم كانت حرب أوكرانيا التي تقترب من نهاية شهرها الخامس، ثقيلة على أوروبا والعالم. لقد أراد المقامر الأميركيّ مواجهة روسيا، بأداة أوروبية، وهو الذي يقود أوروبا، يوجّهها، يحرّضها، يلزمها، يدفعها للمواجهة العسكرية دون أن ترفع صوتها في وجهه، أو تعترض، أو ترفض ما يفرضه عليها.
كم كانت أوروبا تحتاج في هذه الظروف الى حكمة القادة، وبعد نظرهم قبل أن يزجّ بها في حرب استنزاف باهظة الثمن، أرادها الأميركي لها.
إذا كانت بريطانيا قد آثرت أن تضع نفسها في حضن الأميركي لأسباب عديدة، تكون فيه أقرب للولايات المتحدة منها لأوروبا، فإنّ فرنسا التي تشكل مركز الثقل في الاتحاد الأوروبي، كان بإمكانها ان تلعب دوراً تاريخياً يسجل لها، من خلال موقف حاسم، وقرار حكيم يتجنّب المواجهة العسكرية والاقتصادية والمالية، والتجارية المباشرة وغير المباشرة مع روسيا.
إلا أنّ الرئيس الفرنسي ماكرون أراد أن يسلك طريقاً مغايراً للطريق الذي سلكه يوماً، رجل فرنسا التاريخيّ شارل ديغول وهو يتعاطى مع تطورات الأحداث والأوضاع الأوروبية والدولية.
ديغول كان يعتبر انّ الدم الروسي والدم الفرنسي تعانقا على الأرض الأوروبية وهو يدحر العدوان النازي، ويحرّر أوروبا من النازية. كان ديغول، ببعد نظره، وفكره الاستراتيجي يعتبر روسيا نقطة ارتكاز لأوروبا وللعالم. كما كان يتطلع الى تعاون واتفاق بين الأطلسي والأورال.
كان شارل ديغول حريصاً كلّ الحرص، على مكانة فرنسا ودورها وسيادتها ومصالحها العليا في قارتها الأوروبية، ومشدّداً على استقلالية القرار الفرنسي. وهذا لم يجعله يتردّد في وقت من الأوقات بالانسحاب من الجناح العسكري للحلف الأطلسي، لتكون لفرنسا قوتها العسكرية المستقلة الضاربة.
كم كان باستطاعة الرئيس ماكرون، لو تحلى بحكمة ديغول، ان يبعد أوروبا، بما فيها فرنسا، عن الانخراط غير المباشر في الحرب الأوكرانية ضدّ روسيا، وان يأخذ بالاعتبار بروتوكول مينسك عام 2014 الموقع بين الأطراف الثلاثة الروسية والأوكرانية ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، بالإضافة الى ممثلين عن جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك. وهو البرتوكول الذي يعرف الرئيس الفرنسي ماكرون جيداً أنّ أوكرانيا لم تلتزم به وقد خرقته مراراً منذ ذلك التاريخ.
هل أرادت فرنسا ماكرون مع حلفائها أن تلحق هزيمة عسكرية بروسيا، وتحجيمها وتقليص دورها من خلال أوكرانيا؟ وهل يظنّ الرئيس الفرنسي انّ روسيا وتاريخها العسكري الحافل سترضى بهزيمة مهما كلفها ذلك من ثمن، أو تفرّط بأمنها القومي ومجالها الحيوي، وهي التي ألحقت بجيش نابليون هزيمة مذلّة على أبواب موسكو، ودحرت الجيش النازي الألماني في لينينغراد ( بطرسبورغ)، وفي ستالينغراد (فولغوغراد) حيث كان الانتصار غالياً جداً، بعد سقوط ملايين القتلى دفاعاً عن روسيا وأرضها وأمنها القوميّ؟
فرنسا التي تشكل الثقل داخل الاتحاد الأوروبي، وفي الحلف الأطلسي، كان بإمكانها أن تقف وقفتها الشجاعة في وجه المغامر الأميركي، المحرّض والمؤجّج للحروب وإشعالها في العالم، والذي يُقامر اليوم بأوروبا. كان بإمكان ماكرون أن يجعل فرنسا مثالاً يُحتذى لدول الاتحاد الأوروبي، وهي تضع النقاط على الحروف، ومعها دول الاتحاد الأوروبي، لتقول لواشنطن بكلّ جرأة إنّ الولايات المتحدة ومن معها، أخلت بوعودها بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، حين تعهّدت وطمأنت روسيا لجهة عدم توسع الحلف الأطلسي شرقاً في المستقبل.
كانت فرنسا على علم بما كانت تبيّته واشنطن من أهداف وسياسات بعيدة المدى حيال روسيا، وما تخططه لتوسيع الحلف الأطلسي باتجاه روسيا، متجاهلة تماماً الوعود الأميركية المعطاة لموسكو عام 1992 بعدم تمدّد الحلف الأطلسي شرقاً.
استمرّ توسع الحلف شرقاً، في الوقت الذي تشهد فيه فرنسا التطورات على الساحة الأوروبية، وتواكب تمدّد الحلف الأطلسي في شرق أوروبا، وهي تعرف في العمق الغاية من توسّعه، دون أيّ تحفظ او اعتراض منها، نزولاً عند قرار الولايات المتحدة، و»احتراماً» لإرادتها ورغبتها. في حين تعلم باريس جيداً انّ الاندفاع الأميركي باتجاه الشرق، غايته الاقتراب من العمق الروسي، وتهديد الأمن القومي، وتقويض الاستقرار لروسيا.
ماذا لو انّ فرنسا ماكرون رفضت الانخراط في سياسات رسمتِها واشنطن في أوكرانيا؟
ألم يكن بمقدور فرنسا، الدولة الكبرى في أوروبا، ان تسلك سياسة واقعية، لتحذو حذوها بعد ذلك دول أوروبية أخرى، تمنع ما يحصل في القارة التي تدفع شعوبها الثمن الغالي بسبب السياسات الأميركية التي تتصف بالتهوّر والعنجهية! ماذا لو كان ديغول حاضراً، هل كان ليسمح لواشنطن ان تعبث بالقرار الأوروبي كيف ما شاءت، وتزجّ أوروبا في حرب لا تصبّ في صالحها!
كان ديغول حذراً، متوجّساً، متنبّهاً، يقظاً، لا يثق بسياسة الولايات المتحدة، وأهدافها إزاء دول العالم، وكان في ذلك على حق. فالولايات المتحدة تبحث دائماً عن مصالحها ولو تطلب الأمر تقويض دول وسحق شعوب.
لا تكترث لصديق او حليف. وهذا ما فعلته واشنطن مع فرنسا التي وقعت مع أستراليا عقداً ضخماً لشراء 12 غواصة فرنسية ذات دفع تقليدي بقيمة 55 مليار يورو.
إلا أنّ التواطؤ الأميركي البريطاني، غدر بفرنسا وخذلها، ودفع بأستراليا إلى إلغاء الصفقة، والتزوّد بغواصات تعمل بالوقود النووي، وذلك في إطار تحالف عسكري ثلاثي، بين بريطانيا والولايات المتحدة وأستراليا عرف بـ «أوكوس» Aukus.
إلغاء الصفقة سبّبت في ما بعد، نزاعاً بين فرنسا وأستراليا، ما جعل هذه الأخيرة توافق على إجراء تسوية مع فرنسا، ودفع تعويض لها قيمته 585 مليون دولار !
كان بإمكان فرنسا أن تكون صمام الأمان لأوروبا كي تلتزم هذه الأخيرة بالاتفاقيات والتعهّدات المعطاة لروسيا، وتنزع فتيل الحرب، لكنها آثرت السير وراء الأميركي طوعاً أو رغماً عنها، لتشارك في جبهة أوروبية عدائية لروسيا تديرها واشنطن، لم تجن أوروبا منها، كما فرنسا إلا النتائج السيئة على اقتصادها، وعملتها، وتجارتها، وتضخّم أسعار سلعها، والنقص الحادّ في مواد الطاقة الأساسيّة، من غاز ونفط، ومواد أوليّة.
هل كان ديغول فرنسا ليتصرّف حيال أوكرانيا بعد التوسّع شرقاً من قبل الحلف الأطلسي، كما يتصرف الآن رئيسها ماكرون، بعد كلّ ما تفعله الولايات المتحدة في أوروبا والعالم؟!
حلّ الأزمات العالميّة، وتجنب تداعياتها الخطيرة المدمّرة، يحتاج الى قادة وحكماء ورجال، ولا يحتاج الى قراصنة ومغامرين، وتجار سياسة، وحروب، وأسلحة، وباحثين عن مال، ومقامرين بالشعوب!
ليت ماكرون كان بحكمة وشجاعة ديغول، لاستطاع أن يأخذ أوروبا الى غير الموقع الذي أرادته لها واشنطن، وليسجل موقفاً حكيماً جريئاً، يدوّنه التاريخ الأوروبي والعالمي. لكنه آثر ان يكون والاتحاد الأوروبي رهن الإشارة الأميركية، لتكون المعادلة ثابتة ومستمرة بين التابع والمتبوع، والآمر والمأمور!
كان بإمكان فرنسا أن تأخذ أوروبا الى الموقع الصحيح الذي تفرضه مصالحها الوطنية، وليس الى الموقع الخطأ الذي ترسمه وتحدّده الولايات المتحدة، وهي تعزّز نفوذها وهيمنتها على القارة العجوز.
سيعلم الرئيس الفرنسي ومَن معه أنّ هذه المعادلة، وهذا التورّط الفرنسي والأوروبي ضدّ روسيا، سيُكتب له الفشل، عاجلاً أم آجلا. هذه المرة ليست على أبواب موسكو، أو لينينغراد أو ستالينغراد، وإنما على أبواب دونباس في أوكرانيا، وربما أبعد !
*وزير الخارجيّة والمغتربين الأسبق