تركيا الرماديّة… وسورية الخط الأحمر
ناصر قنديل
– كانت سورية ولا تزال المنطقة الحيوية لصناعة المعادلات الاستراتيجية، واليوم في سورية دون كل دول العالم تمركز عسكري مباشر للدولتين الأعظم قوة في العالم، أميركا وروسيا، وهما أقرب لحالة حرب معلنة في أوكرانيا. وفي سورية تمركز عسكري لقوى المقاومة ومن خلفها الحرس الثوري الإيراني، وبالمقابل احتلال إسرائيلي وغارات اسرائيلية. وفي سورية تتمركز بقوة دول مسار أستانة، روسيا وتركيا وإيران، وفي سورية حاربت مخابرات بريطانيا وفرنسا وألمانيا، كما حاربت مخابرات الدول الخليجيّة، وشاركت عشرات الدول في ضخ أكثر من ربع مليون من المتطرفين الإسلاميين المسلحين، تحت عنوان أخواني ووهابي قاعدي وداعشي. وفي ظل كل هذه التحديات والتشابكات والتداخلات، نجحت الدولة السورية بقيادتها وجيشها وشعبها بتجاوز المرحلة الأشد صعوبة، واعترف ألد خصوم سورية الذين بشروا بمواعيد متتابعة لسقوط رئيسها، بأن مشروع إسقاط سورية أو تقسيمها سقط الى غير رجعة، وأن الوضع القائم هو حالة عجز المحاربين عن إعلان نهاية الحرب، ليس لأنها قادرة على تحقيق أهدافها، بل لأنهم لا يستطيعون دفع أثمان التسويات التي تتكفل بإنهائها، وأنهم ينتظرون أثماناً مقابلة لاعترافهم بنهايتها، وهي أثمان ترفض سورية أن تدفعها.
– كما لعبت تركيا دوراً محورياً في الحرب على سورية، فبقيت خلال أكثر من عشر سنوات القوة المركزية في استنزاف الدولة السورية، والملاذ الفعلي للجماعات الإرهابية المحاربة في سورية، وقاعدة التدريب والتنظيم والتسليح، وغرفة عمليات الحرب، فهي تمثل التعبير الأكثر وضوحاً عن حالة العجز عن إعلان نهاية الحرب، والنموذج الأشد دقة عن حالة العجز عن دفع أثمان التسويات اللازمة لإنهاء الحرب، والمثال الواضح عن الأثمان المقابلة التي يطلبها المنخرطون في الحرب للاعتراف بنهايتها، ولذلك تبدو تركيا عالقة في المنطقة الرمادية العاجزة عن التقدم، والعاجزة عن التراجع، وتضيف الخصوصية التي يمثلها رئيسها وطريقة تفكيره، سبباً لأسباب هذه الوضعية التركية، وهو عالق في وهم السلطنة، وعالق في عقليّة قبضاي الصف الذي يقتنص فرص التباهي بالعضلات، كما كان أيام العمل النقابي الطلابي، فهكذا هو في ليبيا، وهكذا في أفغانستان، وهكذا في أذربيجان، وهذا هو الأساس في تطلعه لعملية عسكرية في شمال سورية تتيح تجديد الرئاسة من جهة، وتسمح بامتلاك مزيد من الأوراق في اللعبة الإقليمية.
– سورية تختلف عن ليبيا وأذربيجان وأفغانستان، سواء بخصوصية قيادتها وجيشها وشعبها، ودرجة التماسك التي أظهرتها وطورتها الحرب ضمن شرائح المجتمع السوري بتنوع طوائفه ومناطقه وأعراقهم، وبلورت كتلة تاريخيّة تمثل غالبية النصاب الوطني اللازم لفرض الدولة، بمفهوم السيادة والعنفوان الوطني طرفاً مباشراً في أية حركة على الأرض السورية، أو لخصوصية استثنائيّة تمثلها سورية في رؤية قوتين كبيرتين فاعلتين في سورية هما روسيا وإيران، تعنيان الكثير الكثير بالنسبة لتركيا، وقد اختبرت تركيا معاندتهما وصولاً للمواجهة معهما ومع الدولة السورية في معركة حلب، واكتشفت أن كلفة خيار الانخراط في تسويات لا تلبي التطلعات لا تزال أقل من كلفة التورط في مواجهات محتومة الخسارة، وهكذا ولد مسار أستانة الذي كانت قمته السابعة في طهران أول أمس، وتركيا العالقة تتخبط في لحظة مختلفة لغير صالح مغامراتها من زاوية النظرة السورية والروسية والإيرانية، قياساً بالفرص التي منحت لتركيا في تلاعبها بتنفيذ التزاماتها منذ إعلان مسار أستانة، حيث البديل الوحيد الموضوع على الطاولة إذا تعنتت تركيا بخيارها العسكري، هو المواجهة وإعلان سقوط مسار أستانة.
– تنطلق روسيا وإيران في مقاربة المغامرة التركية من نظرة إيجابية لاستقطاب تركيا والحفاظ على الشراكة معها، وبقدر الالتزام ذاته بالوقوف وراء الدولة السورية إذا دقت ساعة الحرب، السعي لاحتواء المأزق التركيّ وتقديم العروض التي تكفل مكاسب مضمونة، بينما تظهر المغامرة خسارة محققة. فالنظرة الروسية الإيرانية لسورية، لثنائيّة موقعها في الجغرافيا السياسية الدوليّة والإقليميّة، وخصوصيّة قيادتها وقوة دولتها، تقدّم وحدها الفرصة لتقديم نموذج لنظام إقليميّ جديد كافل للتعاون والأمن والاستقرار، ضامن لمعايير السيادة والاستقلال، تسعى خلاله لملء الفراغ الذي تعيشه منطقة الشرق الأوسط، رغم كل مزاعم الرئيس الأميركي جو بايدن بالعكس، بعدما جاءت قمة جدة لتؤكد حال الفراغ بعدما كانت مصممة لنفيه. ومن سورية وحدها يمكن مخاطبة دول المنطقة، بالدعوة للانخراط في شراكات إقليمية تستطيع صناعة الحلول والتسويات بدلاً من الحروب والنزاعات. هذه الفرصة مشروطة بالنجاح في تفكيك القنبلة التركية الموقوتة، ونقل تركيا من موقع صناعة الحروب إلى موقع الشراكة في صناعة التسويات، باعتبارها هي المثال الذي يُراد تقديمه عن الشراكات المزدوجة لحلفاء أميركا بإمكانية العمل مع روسيا وإيران، ولذلك وضعت سلة الحوافز السياسية والاقتصادية أمام تركيا مقابل الخط الأحمر الذي تمّ رسمه بقوة حول سورية رفضاً للعملية العسكرية التركية.
– كلام الرئيس التركي بعد القمة عن بقاء الخيار العسكري على الطاولة، هو تعبير عن صعوبة مغادرة المنطقة الرمادية، وكلام وزير الخارجية السورية فيصل المقداد عن العزم على المواجهة، إذا وقعت العملية العسكرية، هو تأكيد الخط الأحمر، ومن هذه الثنائيّة ستولد بالتتابع وقائع جديدة، ترجّح كفة التسويات على المواجهة، وفقاً لمعادلة سورية دولة وليست ساحة.