أولى

التعليق السياسي

لبنان: حصانات “كل مين إيدو الو” أم شيء آخر؟

 

 

العاصفة التي هبّت بوجه المحكمة العسكريّة والأمن العام على خلفيّة استدعاء رجل دين للتحقيق، بضوء انتهاك القانون الذي يجرّم التعامل مع العدو على أي مستوى ويفرض المقاطعة الشاملة على كل ما يتّصل به، بعد قيامه بالتنقل بين الأراضي اللبنانية والأراضي الفلسطينية المحتلة وجلبه أموالاً من هناك واتصاله بمتهمين بجرم العمالة للعدو، كشف هشاشة العقل السياسي اللبناني ودرجة الاستنسابية التي تتحكم بالقيادات السياسية والروحية والإعلامية بلا استثناء، وفق معادلة الصيف والشتاء على سطح واحد بصفتها قاعدة عرفية أقوى من القانون بالنسبة للجميع.

عندما يتحدث القادة الروحيون والسياسيون والإعلاميون والمثقفون في الصالونات، يحاضرون بالدعوة لإلغاء كل أشكال الحصانات، ويتبارون في اعتبار النص الدستوري الذي ينص على تساوي اللبنانيين أمام القانون سنداً لهذه الدعوة، ويرفضون التمييز في تحديد الهيئات القضائية التي تنظر بالقضايا، وفقاً لموقع ومسؤولية المعني، ويقولون يجب أن تكون أيدي القضاء طليقة في كل الملاحقات لا يحدّها حدّ ولا تحجبها حصانات.

فجأة سمعنا هيئات حقوقية وقانونية تنتسب للمجتمع المدني تشارك في الاحتجاج على الاستدعاء القضائي، دون أن تقدم سبباً قانونياً بحجم موقفها الاحتجاجي، وانضمّت الى المحتجين شخصيات وقيادات سبق لها أن اتخذت مواقف عالية الصوت والسقف عندما استدعى المحقق العدلي رئيس الحكومة السابق حسان دياب في قضية انفجار مرفأ بيروت، تستغرب عدم مثوله، تحت شعار، من ليس لديه ما يخشاه وواثق من براءته يذهب للقضاء، وشارك في هذا الموقف رئيس الجمهورية، الذي رفض إعطاء الإذن بملاحقة مدير عام أمن الدولة، كما انضمّ التيار الوطني الحر إلى حملة استنكار استدعاء رجل الدين، وحدث الشيء نفسه مع استدعاء وزراء ونواب وامتناعهم بداعي الحصانة، أو التمسك بحصر ملاحقتهم بهيئة قضائيّة خاصة هي المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، أسوة بالقضاة الذين حصرت ملاحقتهم بهيئة خاصة.

حزب القوات بقي يردّد ويجدّد الدعوة لمثول الجميع أمام القضاء، وعندما طلبه القاضي للمثول في قضية الطيونة رفض علناً وتمرّد، وتمتاللفلفةاللازمة قضائياً، أي لف الملف بمعنى حفظه، وكذلك في ملاحقة القاضية غادة عون لحاكم مصرف لبنان، لا مانع من ملاحقة القاضية قضائياً لضمان عدم مواصلة ملاحقة الحاكم، فلبنان بلد يطبق فيه القانون، تحت شعار حصانةكل مين ايدو الو”.

هذا المعيار المزدوج يكشف هشاشة السياسة في لبنان واستحالة بناء منظومة معايير موحّدة لدى الفاعلين في الشأن العام، فهم مع الشيء وضده، مع القضاء إذا نال من خصم، وضده إذا اقترب من صديق، مع الحصانة اذا حمت ابن الطائفة ولو من خارج القانون، وضد الحصانة إذا وفرت الحماية في قضية ذات صبغة طائفية لمن هو خارج الطائفة، ولو كانت الحصانة بنص قانونيّ، مع تطبيق القانون حسب القضيّة، فالملاحقة بقضايا الفساد غير جائزة عندما تكون أساساً لملاحقة حاكم المصرف، عند البعض، والملاحقة بجرم التعامل كلها مرفوضة من الأصل عند بعض آخر، والملاحقة تصبح جريمة عندما تجتمع في رفضها طبيعة القضية كجرم التعامل، مع اللعب بالعصبيات الطائفية، مع المحسوبية.

بالتأكيد ليست كل الاتهامات التي يحقق فيها القضاء صحيحة، ولا كل الأحكام التي تصدر عنه عادلة، ولكن هل من طريق آخر للوصول إلى أعلى نسبة ممكنة من الحقيقة، وأعلى مرتبة متاحة للعدالة، بغير طريق الامتثال للقانون، بحصاناته، وآليات المساءلة القضائية التي ينص عليها؟

هل يصدق أنفسهم الذين يقولون في خطاباتهم إن الحل في لبنان هو بدولة القانون والمؤسسات؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى