«الاشتباك العالمي الجديد» والتوازن المُستقبلي للقوة
نمر أبي ديب
بالرغم من «صراع المحاور»، وضجيج الحروب الرديفة أيقظت الفورة البنيوية في مسار الدول الناشئة الآخذة في التمدّد التقني والسياسي كما يصفها الغرب الأطلسي بهدير المُتغيرات الاستراتيجية دول «الأمان الاستثنائي» من سباتها التاريخي، البعيد في قراءات القوى التقليدية «الصديقة منها والعدوة» عن دائرة الاستهداف الوجودي للدور المحوري، المنبثق في الدرجة الأولى من «أحادية المشهد العالمي»، من جغرافيا سياسية كرَّسَت على مدى عقود مشروعية القطر الواحد ضمن نظام تبعي أسقطت مشروعيته العالمية في كلّ من أفريقيا ودول الاختراق السياسي شظايا النهضة التوسعية لدول التمدّد الهادئ، التي عَبَّرَ عنها الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ـ الناتو ينس ستولتنبرغ عندما أكَّد بصريح العبارة أنّ طموحات الصين وصعودها المستمرّ يمثلان تحدياً حقيقياً لمصالح الناتو لِقِيَمْ الحلف، لِمُثُلِه، وحتى لأمنه الاستراتيجي، في تطور سياسي لافت، مُفاجئ بعمقه الوجودي، ومعاييره الاستراتيجية العابرة في «استثنائيتها الزمنية» لموازين المراحل السابقة، لخطوط حمر أساسية، أكَّدَت بدليل المواقف المُتقدمة لحلف شمال الأطلسي ـ الناتو، دخول المنظومة الدولية بأكملها مرحلة «اشتباك عالمي جديد» بعناوين مختلفة، وأسس ثابتة أكَّدَت عليها عقيدة الناتو الجديدة، بمصطلحات استراتيجية، ومواقف استثنائية وجَدَت المندوبة الأميركية لدى «حلف شمال الأطلسي» جوليان سميث في ذكر العقيدة لأسم الصين محطة مركزية لحدث استثنائي كبير في تاريخ «الحلف»…
هنا تجدر الإشارة إلى شكلية الإشادة الأميركية بخطوات الناتو الاستباقية في مراحل بحت استثنائية فقدت فيها أميركا بفعل الترهّل السياسي امتيازات كبيرة من بينها «القدرة على احتواء الأزمات»، والحفاظ على عوامل التماسك في مؤسّساتها الداخلية والدستورية تحديداً، ما طرح أكثر من علامة استفهام سياسية وتساؤل حول «الدور المستقبلي لأميركا الجديدة»، حول موقعها الاستراتيجي على منصات التوازن المستقبلي للقوة من جهة، وقدرتها على نسج «أحلاف عالمية» جديدة ضامنة على المستوى السياسي وحتى العسكري حماية مشتركة للدول الحليفة والصديقة في مراحل غياب الامتيازات والقدرة على دفع التكاليف البشرية وحتى الجغرافية، التي باتت تتطلبها حروب الأجيال القادمة والحالية على مسار «الاشتباك العالمي الجديد»، و»موازين القوى المُستقبلية».
أيضاً هنا تجدر الإشارة إلى الموقف الغربي المُتسلِّح بـ «عقيدة الناتو الجديدة»، في إنجازات يراها الغرب استراتيجية، لم تتوفر فيها حتى اللحظة مؤهّلات سياسية وحتى عسكرية ضامنة على مستوى التوازنات الدولية موقع مُتقدِّم لحلف شمال الأطلسي ـ الناتو على منصات التوازن المستقبلي للقوة، انطلاقاً من مؤثرات استثنائية فرضتها موازين القوى الجديدة على مُجمَل مساحات المواجهة العالمية والإقليمية من بينها، إحجام الناتو عن الدخول المباشر في حروب تقليدية مع روسيا لأسباب عديدة ومحاذير سياسية/ عسكرية تحدث عنها بإسهاب ستولتنبرغ حين أكَّد بصريح العبارة أنّ الناتو لن يكون في حرب أوكرانيا جزءاً من الصراع القائم على الأرض، مُعتبراً أنّ حرب أوكرانيا وحشية وأيّ حرب مُقبِلة بين الناتو وروسيا يمكن أن تكون أسوأ، في إشارة واضحة إلى «خطوط حمر أطلسية» عكست بشكل كامل مبدأ الجدية في تعاطي الناتو مع ملفات أساسية وأخرى استراتيجية من بينها خيار الحرب مع روسيا، وغيرها من دول المواجهة.
ثانياً التوازنات العسكرية في مراحل «الصياغة الميدانية لعقيدة الناتو الجديدة»، التي لم تبلغ فيها الجهوزية بعد مستويات استراتيجية تسمح لحلف شمال الأطلسي باتخاذ القرار الصعب والمباشرة في نشر «أسلحة نووية» ضمن نطاق «أوروبا الشرقية» بالرغم من عوامل عديدة من تحديات بارزة وأساسية نذكر منها، موقف روسيا المتقدم في هذا الشأن، الذي عَبَّرَ عنه الرئيس فلاديمير بوتين في مؤتمر «بطرسبرغ» الاقتصادي الدولي ضمن خلاصة مفادها (لا نهدّد أحداً بـ «الأسلحة النووية» نحن نملكها، وسوف نستخدمها إذا لزم الأمر لحماية سيادة بلادنا)، نذكر أيضاً المُحاكاة الاستراتيجية التي أجراها رئيس جمهورية الشيشان رمضان قديروف وأكَّد من خلالها أنّ المسار التصاعدي للأزمة الأوكرانية يتطلب نشر «أنظمة دفاع جوي» في جبال الشيشان وغيرها من النقاط الاستراتيجية.
انطلاقاً مما تقدَّم تعيش القوى المشتركة المتمثلة في الولايات المتحدة الأميركية وحلف شمال الأطلسي فراغاً استثنائياً على مستوى «قرار الحرب» الغير متوفر اليوم على الجبهتين الإقليمية والدولية، في ظلّ البحث الدائم عن سبل تضمن من خلالها الولايات المتحدة الأميركية كيانية المحور في الدرجة الأولى ومُستلزمات البقاء في مراحل مُلزِمة في السياسة الدولية، والأمنين «العسكري والاقتصادي»، مُطالَب فيها الأميركي ومن ورائه «الناتو» بخطوات متقدّمة فاعلة ومركزية تعكس بشكل واضح حجم التماسك السياسي في بنية المحور الأميركي من جهة وعوامل التفوّق الاستراتيجي الغير متوفرة اليوم في عقيدة الناتو الجديدة، وأيضاً في حسابات سياسية، عسكرية وضعت الناتو في خانة المراوحة الذاتية، ضمن مدار عالمي مُتفجِّر بأزماته الداخلية، بعناوين وجودية، بلغت فيها ومن خلالها الحاجة الأوروبية للغاز الروسي مراحل العجز الاستثنائي الغير قادر على «شنّ الحروب وتوفير البدائل» في ملفات أساسية خرجت بشكل كامل عن «السيطرة الأميركية» من جهة، و»دوائر الاحتواء الأوروبي» من جهة أخرى في مشهد تاريخي بامتياز رسمت بعضاً من ملامحه الاستراتيجية معادلة المتوسط سواء على مستوى استخراج الغاز «الإسرائيلي» وتصديره، أم على مستوى «قرار المنع» و»إسقاط الرهان الأميركي» القائم على فرضية «تأمين البديل، وتغذية أوروبا بالغاز الإسرائيلي»، وهنا تجدر الإضاءة إلى عاملين:
1 ـ «شراكة المتوسط في رسم ملامح النتيجة المُترتبة سياسياً، عسكرياً وحتى اقتصادياً على ملفات عديدة من بينها النفط والغاز في مسار الاشتباك العالمي الجديد.
2 ـ دخول قوى جديدة إلى دائرة الصراع المتجدّد من خارج المنتدى التقليدي، لدول التنافس العالمي، وإضافة جديد على مسار الأحداث المتلاحقة سياسياً وعسكرياً على الساحتين الإقليمية والدولية في مراحل مِفصَلية سجَّلت من خلالها الدول الكبرى الصين الشعبية وروسيا في زمن المراوحة الأميركية، وعجز الناتو خطوات ثابتة استراتيجية على مسار «الاشتباك العالمي الجديد» و»منصات التوازن المستقبلي للقوة العالمية.