الطريق إلى الخلاص…
د. فاروق عبد الحميد العزب
لم تتحضر ولم تتقدم المجموعات البشرية وتنظيماتها عبر التاريخ، بما فيها الدول، الا عبر منظومة من القيم الاساسية، ذات الخلفية الأخلاقية، القائمة على قناعات راسخة لغالبية افرادها بضرورة اعتمادها واحترامها وتطبيقها، مما مكنها من امتلاك رصيد سلوك حضاري، يحتم التقيّد والتزام التصرف به، وكونها مبادئ اخلاقية عامة وسامية لم تأتي بها الأديان والمدارس الفلسفية والأيدولوجيات بمحض الصدفة، بل عن قناعات متراكمة أكيدة وراسخة، من اجل خلق تشكيلات اجتماعية ـ اقتصادية، منظمة ومنضبطة وعادلة فاعلة، توفر الأمن والأمان لكلّ المكونين لها والمنتسبين اليها من شخصيات طبيعية كانت أمّ اعتبارية، ضمن منظومة قانونية ملزمة.
انّ منظومة القوانين والتشريعات الوضعية في كل المجتمعات البشرية، لا تتعدى كونها تقنين واعتماد للحد الأدنى من المنظومات الأخلاقية السائدة في المجتمعات المختلفة، وهذا الحد الأدنى يشكل الإطار الإلزامي للتعامل، والذي لا يجوز انتهاكه او تجاوزه، بدون مسؤولية أو عقاب مادي أو معنوي أو بكليهما. وبما أن القناعات الأخلاقية تقوم على قيم وأسس روحية سيكولوجية اجتماعية، فإنّ الالتزام بها واحترام تطبيقها يتماشى طردياً مع محصلة القناعات في المجتمعات المختلفة وأولويات أفرادها المكوّنين لها، ضمن الوعى الجماعي ككل، والوعى الفردي لأفراد المجتمع الواحد، وبمقدار التفاعل في ما بينها، وعلى مدى التناقض أو التوافق الحاصل ما بين مبدأ التضامن والتكافل الجماعي الموضوعي، ومبدأ الأنانية والاستحواذ الفردي الذاتي، تناقض مابين الرغبات المادية، وما يقف حيالها من كوابح معنوية روحية أخلاقية، وهذه مسألة نسبية متغيّرة في الزمان والمكان، بحسب المؤثرات والظروف، وما تعتمده صفوة المجتمع من نهج وتصرف سلوكي، بحيث أن هذه النخبة الصفوة، هى التي تؤثر تأثيرا مباشرا في خلق وتفعيل النهج، الذي سوف يعتمد في المجتمع وفي منظوماته المختلفة، بما فيها القانونية والاقتصادية، كونها تملك القدرة والوسائل الكافية من أجل تحقيق ذاك .
انّ أيّ ابتعاد للصفوة عن اعتماد المنظومة الأخلاقية، سوف تحدث بالضرورة خلل في اعتماد وتفعيل قوانين موضوعية عادلة، كما أنها أيّ النخبة تعمد والحالة هذه الى خلق تشريعات، تجعل القوانين أكثر ملائمة وانحيازاً لمصالحها وتكريسا لامتيازاتها، مما يخلق واقعا متناقضا بينها وبين بقية أفراد المجتمع، ليكرّس لها الاستحواذ والسيطرة على المقدرات المتاحه، ويمكنها من الفساد والإفساد في ظل المحسوبية والتزاوج النفعي المتبادل بين السلطة والمال على حساب السواد الأعظم لمكونات المجتمع.
انّ العلاقة القائمة ما بين النخبة وبقية افراد المجتمع، هي علاقة جدلية، فكلّ منهما وبالضرورة يؤثر ويتأثر بالأخر، فلا يصلح المجتمع ولا يفسد الا بفعل صفوته، ولا تصلح أو تفسد الصفوة، إلا بصلاح أو فساد المجتمع ككلّ، وهذا الأخير يفرز الصفوة من بين صفوفه، ضمن علاقات وتفاعلات طويلة ومعقدة، تلعب فيها القيم والأخلاق دوراً أساسياً محورياً في صقل المفاهيم الإنسانية الأخلاقية، واعتمادها كنهج سلوكي يرقى أو يتخلف به المجتمع تباعاً.
في ضوء ما تقدّم، نلاحظ أنه وفي أيامنا هذه وفي مجتمعاتنا العربية بالذات، قد تراجعت المنظومة الاخلاقية واعتماد قيمها السامية، واستبدلت بقيم استهلاكية مستوردة، ذات طابع مادي، أصبحت مكوناتها وامتلاك نتاجها مقياس اجتماعي للمنزلة في السطوة والرقي، تقاس وتبنى عليها المواقع والمراتب على سلم المجتمع في حالة مرضية من التباهي والمظاهرة والمزاودة في الابهار، الأمر الذي خلق واقع استهلاكي شره مسرف، والأهم أنه خارج القدرات الاقتصادية والمادية المتوفرة موضوعيا للفرد والعائلة، مما أدّى الى تآكل المدخرات والى المديونية المزمنة، في ظلّ غياب إنتاجية او مردودات اقتصادية استثمارية . كل هذا أدّى الى تراجع تدريجي في مستوى المعيشة، وتدني القدرة الشرائية، تبعها زيادة ملحوظة في تفشي ظاهرة الفقر وانتشار البطالة وتراجع ملحوظ في القدرة على توفير الاساسيات الحياتية الضرورية .
حدث كلّ ذلك نتيجة انفتاحنا على الاقتصاد الرأسمالي العالمي من بوابة العولمة، التي أزالت القيود والغيت الحدود ودخلت من ابواب واسعة شرعت لها بالتعاون مع النخب السائدة في مجتمعاتنا، التي قامت بدور السمسرة، مقابل عمولات ورشوات من خلال بيع مقدرات الوطن الاستراتيجية للشركات الفوق قومية، بطريقة ممنهجة منظمة عرفت بالخصخصة، مطلقة العنان لاقتصاد السوق ولقانون العرض والطلب، اللذان يعتمدهما النظام الرأسمالي والذي يقوم على الاستهلاك ويشجع ويروج للمديونية من خلال الوسائل السيكولوجية في فن الدعاية والاعلان، لخلق حالة من الادمان الاستهلاكي، الذي ليس له من وازع أو هدف الا الربح، بدون اي اعتبارات إنسانية أو بيئية أو أخلاقية، بحيث أن هذا النمط المعيشي السائد، خلق إدمان وعبودية من نوع جديد، هي إدمان وعبودية الاستهلاك.
الإنتاج والاستهلاك والربح هي بلا شك محرك ديناميكي للاقتصاد، وهي ايضا بلا شك ضروريات لسد الحاجات وتحسين الظروف المعيشية والصحية وتطور العلم والتقنية وتقدم المجتمعات، غير أن كل ذلك يجب أن يتمّ ضمن منظومة اخلاقية تراعي العقلانية والرشد والامانة وتحافظ على البيئة والموارد الطبيعية، آخذة بعين الاعتبار مستقبل الاجيال القادمة وظروف معيشتها البيئية والاقتصادية . لذى يتوجب أن تكون هناك اولويات في عملية الانتاج والاستهلاك في اطار الضروريات والكماليات، بحيث يكون الانتاج بحسب الحاجيات والامكانات، وأن يكون الاستهلاك عقلاني مرشد، والسعر اخلاقي منطقي مبني على كلفة المنتج والربح المعقول، لاعلى حاجة الناس الملحة حسب قانون العرض والطلب، كأن يكون هناك منتج طبي أودواء تكاليف انتاجه بسيطة، ولكن هناك طلب كبير عليه، مما يمكن المنتج من فرض ربح عالي جدا، مثل هذا الربح هوغير اخلاقي .
ختاما يجدر القول، بأن كل واحد منا جزء من المجتمع، يشارك بقدر اوباخر في عملية الانتاج والاستهلاك، والكل منا له سلوكياته وتعاملاته، وللكل دور في المجتمع سواء كان هذا الدور صغيرا ام كبيرا، لكن علينا جميعا أن نعي آلية تسيير المجتمع والقوانين المنظمة والمحركة له، وأن يبدأ كل منا في تحديد ا ولوياته والعودة للقيم الاخلاقية، وأن يتحرر بوعيه من تقاليد وعادات موروثة بالية، أومن تقليعات ومظاهر غريبة مستوردة، وأن يحصن نفسه ويجعلها منيعة من انماط الحياة الاستهلاكية الجديدة، وأن يرفض ويقاوم عبوديتها، وأن يشارك بوعية الفردي وحسه المتقدم في خلق وعي جماعي متطور، لتكون هناك صفوة صالحة في مجتمع صالح قادرةعلى التغيير والتطور والانعتاق، هذا هوطريقنا للخروج من ازماتنا، طريقنا الى الخلاص وطريقنا للحضارة والتقدم.
*أستاذ جامعي وقنصل فخري سابق