أميركا: أزمة رئاسية متراكمة تُجدّد دور العسكر في القرار
د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
تدهور الحال الذهنية للرئيس الأميركي جو بايدن وتبعاتها المستمرة على المستويين الذاتي والعام، والعالمي أيضاً، أضحت مادة إعلامية ثابتة ومصدر قلق دائم للمؤسسة الحاكمة الأميركية ومخطّطاتها الاستراتيجية، وكذلك على “حلفاء وشركاء” واشنطن في العالم قاطبة.
البعد غير المرئي في تدهور مكانة الولايات المتحدة هو تعاظم دور القيادات العسكرية في صنع القرار السياسي، على الرغم من دورها المرسوم بمسؤوليتها أمام الرئيس، القائد الأعلى للقوات المسلحة.
ويمكن القول إنّ “سيطرة” المدنيين على قرار المؤسسة العسكرية تراجع “بصمت، لكن بوتيرة ثابتة” منذ 3 عقود تزامناً مع نهاية حقبة الحرب الباردة، في مطلع تسعينيات القرن الماضي، واكبها تنامٍ مضطرد في نفوذ القيادات العسكرية، ودورها المحوري في تصميم الحروب المتتالية وشنّها منذ تلك الآونة، وإطلاق مصطلح “الحرب على الإرهاب” كعنوان فضفاض يتيح للمؤسّسة التمدّد والتدخل و”إدارة الحروب” على نطاق الكون كله.
بيد أنّ الحصيلة العامة لتلك المعادلة لا تكمن في تعريفها الثنائي للقرار، أيّ إما العسكر، وإما السياسيون، بل حافظ الطرفان على علاقة توازن بينهما استطاع العسكريون التحكم بطبيعة المعلومات المُراد تعميمها وممارسة سيطرة غير مرئية أحياناً على آليات صنع القرار السياسي، في السلطتين التنفيذية والتشريعية على السواء.
مناسبة هذه المقدّمة الضرورية فرضتها جولة الرئيس جو بايدن الأخيرة في “الشرق الأوسط”، وما رافقها من توقعات محلية مفرطة أحياناً لناحية الضغط الذي ينوي الرئيس الأميركي ممارسته على بعض دول المنطقة، وخصوصاً المنتجة للنفط.
ودرجت العادة على دعم القوى السياسية كافة، بتوافق الحزبين، أفراداً ومؤسّسات الرئيس في جولاته الخارجية، والعزوف عن توجيه أيّ انتقاد له، مهما كانت، لإتاحة له فرصة الظهور أقوى أمام محاوريه.
وجاء استثناء تلك القاعدة أو العرف على لسان طبيب البيت الأبيض في ولاية الرئيس أوباما، روني جاكسون، الذي انتقد الحالة الذهنية للرئيس جو بايدن، قائلاً: “كلنا يدرك أنّ بايدن لا يصلح لمنصب الرئيس. قدراته العقلية تجاوزت حدود المعقول”، كلامه هذا استدعى من الرئيس الأسبق أوباما توجيه توبيخ شديد اللهجة إلى طبيبه الخاص السابق، معرباً عن “خيبة أمله” من انتقاده أهلية الرئيس بايدن علناً (شبكة “سي أن أن”، 13 تموز/ يوليو 2022).
التدهور المتسارع في أداء الرئيس بايدن وزلاّته المستمرة أوقعت فريقه الاستشاري ومساعديه في حال من الحرج لكثرة المبذول من الجهود لتطويق تبعاتها. أقربها ما جرى الإعداد له قبيل زيارته السعودية والتركيز على “مصافحة القبضة” مع ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، لكن بايدن “نسي” إرشادات فريقه وشوهد يصافح باليد عدداً من المسؤولين في “جدة وتل أبيب”. فضلاً عن وقوفه “مذهولاً” لا يلوي على شيء في عدد من المواقف، ما لم يشكّل مادة تندّر إعلامية وحسب، بل أكّد شكوك عدد من قادة دول العالم في عجز الرئيس بايدن، وعدم أهليته لاتخاذ أيّ قرار، وهو أفضل تعبير عن مكانته كواجهة لآخرين يصنعون القرار.
ترجمة تلك الظواهر، بل العوارض، التي لم يعد بالإمكان إضفاء مساحيق الإخراج السينمائي عليها، في بعد السياسة الخارجية الأميركية، تجدّد الاعتبار لتعاظم دور القادة العسكريين في رسم معالم السياسة الخارجية، وما يعزّز ذلك جملة من الشكاوى التي عاناها الرئيس الأسبق باراك أوباما باتهام ضباط البنتاغون بمحاصرته عبر “تقليص الخيارات” المتاحة وخصوصاً في “اضطراره” إلى قبول زيادة عديد القوات العسكرية في أفغانستان، عام 2015، موحياً بأنه لم يكن يشاطر قادته تلك الرؤية. وسارع إلى الأخذ بالثأر عبر إقالته قائد القوات العسكرية الأميركية في أفغانستان، الجنرال ستانلي ماكريستال، على خلفية تصريحات مناوئة للبيت الأبيض أدلى بها الأخير إلى أحد الصحافيين.
عند مراجعة الجدل الرتيب المرافق عادة لإقرار ميزانية وزارة الدفاع السنوية، لوحظ في السنوات القليلة الأخيرة “رضوخ” كلتا السلطتين، التنفيذية والتشريعية، لاستيعاب الضغوط العالية الممارسة عليهما لإقرار سقف ميزانيات أعلى مما طلبه قادة البنتاغون، قيمته 37 مليار دولار زيادة للسنة المالية المقبلة، وهزيمة اقتراح عضو في مجلس النواب اقتطاع “100 مليار دولار” من ميزانية البنتاغون للإنفاق على مواجهة التحديات الاجتماعية المتمثلة في شحّ فرص السكن وتنامي ظاهرة المشرّدين.
ونظرة أشمل على حضور مكثف للعسكر في القرار السياسي تقود المرء إلى الاستدلال على تآكل “السيطرة المدنية”، أو تراجعها على أقلّ تقدير، خارج أسوار البنتاغون، وتحشيدها قادة موثوق بهم لشغل مناصب بالغة الحساسية في دوائر صنع القرار المحيطة بالبيت الأبيض. لعلّ أبرزهم، في الآونة الأخيرة، وزير الدفاع جيمس ماتيس مخالفاً لتقليد تسليم المهمة إلى شخصية مدنية، ورئيس موظفي البيت الأبيض ومستشار الأمن القومي لترامب، أتش آر ماكماستر.
أما التجسيد الأبرز لدور العسكر فيعيدنا إلى الصراع داخل المؤسّسة الحاكمة عقب الانتخابات الرئاسية الماضية، 2020، حينما وجّه اثنان من القادة العسكريين الكبار خطاباً مفتوحاً إلى رئيس هيئة الأركان المشتركة، مارك ميللي، طالبان فيه بـ “خلع” الرئيس ترامب إذا رفض مغادرة منصبه بعد خسارته الجولة الانتخابية.
تجدر الإشارة إلى “رضوخ” السلطة التشريعية، الكونغرس بمجلسيه، لضغوط البنتاغون لتعيين وزير للدفاع من بين قادته بخلاف الشرط المسبق الذي اتبعه الكونغرس بوجوب تقاعد الضباط لمدة 7 سنوات على الأقلّ، قبل الموافقة على تسلمهم مناصب رفيعة المستوى في وزارة الدفاع، عملاً بإجراءات إصلاحية أقرّت عام 1947 بالخصوص نفسه.
والمؤسسة الأمنية، بجميع تشعّباتها ووكالاتها المختلفة، تسير على قدم وساق مع المؤسسة العسكرية، يكمل كلّ منهما الآخر، ما تؤكّده آليات صرف الميزانيات السنوية الضخمة لتلك الأجهزة، والتي قلما تواجه بعض المساءلة الشكلية للحفاظ على صورة النظام الديموقراطي لدى الجمهور.
تنتظم جهود أفرع المؤسّسات الاستخباراتية الأميركية في نحو 17 جهازاً، تتوزّع على جملة اختصاصات منها: وكالات استخبارية لأفرع القوات المسلحة، ووكالات حكومية أخرى، تعمل بمجموعها لدعم السياسة الخارجية الأميركية. وبلغت ميزانياتها الإجمالية لعام 2022 نحو “86 مليار دولار”، لكنّها لا تشمل “وزارة الأمن الداخلي” التي أنشئت عام 2002 بميزانية بلغت 40 مليار دولار، ارتفعت إلى 1.1 تريليون دولار عام 2017، وتزداد تباعاً (ميزانيات الأجهزة الاستخبارية مدرجة في تقرير “خدمة أبحاث الكونغرس”، 12 كانون الأول/ ديسمبر 2021).
تتعاظم أدوار الأجهزة الاستخباراتية المختلفة طرداً مع منسوب التحديات التي تواجهها السياسة الخارجية الأميركية، واعتمادها بصورة متصاعدة على نفوذها الدولي، الذي يترجم نفوذاً موازياً في دوائر صنع القرار، أسوة بدور المؤسسة العسكرية.
دشّن الرئيس المنتخب جو بايدن ولايته الرئاسية باتهام سلفه الرئيس دونالد ترامب بتقويض المؤسسة الاستخبارية وتعريضها “لأضرار كبيرة”، عدّها البعض بوليصة تأمين لتحالف سلس منشود بين البيت الأبيض والمؤسسة الاستخبارية الشاملة، سرعان ما تبدّد عقب صراع بين وعود الرئيس الانتخابية بالانسحاب من أفغانستان ورؤى المؤسسة النافذة في صنع القرار لتقنين الانسحاب، وتبنّي أجندتها الخاصة في الاستثمار بتقنية أمن المعلومات وتحصين سلامة الشبكات الأميركية الهائلة، والأهمّ مواكبة رؤيتها في استهداف الصين وروسيا، بصورة رئيسة، وعدم التساهل مع كلّ من إيران وكوريا الشمالية.
تلك العناصر أضحت بديهيات لسياسة البيت الأبيض الخارجية، مع استمرار منسوب العداء للنظم الوطنية المستقلة في أميركا الوسطى والجنوبية، وتشديد التعامل “الخشن” وتنشيط سياسة نشوب “الثورات الملونة” في مناطق متعددة من العالم، خصوصاً في باكستان وسيريلانكا اللتين تعرّضتا لانقلاب على السلطة بعد أيام وجيزة من انتهاج قيادتهما سياسة تقارب وتفاهم مع روسيا الاتحادية.