كلام بارد في ملف ساخن: قضيّة المطران الحاج
ناصر قنديل
– سعى البطريرك بشارة الراعي لتحويل قضية المطران موسى الحاج الى عنوان معركة سياسيّة وشعبيّة، أكبر من حجم العناوين التي تثيرها القضية بكثير. فالقضية تقوم على ثنائيّة يمكن للحوار بين الكنيسة والقضاء رسم قواعد تحول دون تكرارها دون ضجيج، وإذا استدعى الأمر الاستعانة برئيس الجمهورية كوسيط يلتزم «الحياد الإيجابيّ الناشط» يعرف البطريرك أنه وضع قضية الفارين الى فلسطين المحتلة، وبينهم العملاء، في صلب بنود التفاهم بينه وبين حزب الله عام 2006، وحصل من الحزب على مواقف أثارت نقاشاً صعباً داخل الحزب وبين حلفائه. والثنائيّة هي وضع آلية تحاول البطريركيّة فرضها بقوة الصراخ على القضاء، في كيفية التعامل مع سلك الكهنوت في المسائل القضائية، فرفع البطريرك السقف، مرة بقول أحد معاونيه أن المطارنة لا يحاكمون إلا أمام الفاتيكان. وهذه يعرف البطريرك انها إعلان فدرالية قضائية تصلح لزمن حكم المتصرفيّة أيام الاحتلال العثماني، لكن لا أحد يستطيع تخيل ان رجال الدين اللبنانيين لا يحاكمون على أي جرائم جزائيّة أمام محاكم بلدهم، بل يقوم الفاتيكان بمحاكمة بعضهم وكنيسة موسكو بمحاكمة بعض آخر والأزهر لبعض ثالث، والنجف وقم لبعض رابع. ولاحقاً عدل البطريرك معادلة الامتيازات التي يريدها للكهنة والرهبان في شروط التقاضي بالقول إنه لا يجوز التحقيق مع أي منهم او توقيفه الا بإذن من البطريرك، طالباً حصانة للكهنوت وليس لرتب منهم تشبه حصانات المدراء العامين، ما يفتح الباب لمطالب مشابهة، تجعل عشرات آلاف العاملين في الأسلاك الدينية خارج نطاق المساءلة القضائية دون إذن مرجعياتهم.
– القضية الثانية التفاوضية التي أراد البطريرك فتح ملفها، هي قضية فرض العلاقة الطبيعية بين الداخل اللبناني واللبنانيين الفارين في فلسطين المحتلة، واعتبار هذه العلاقة شبيهة لعلاقة لبنان واللبنانيين والكنيسة وسواها من المؤسسات اللبنانية بأي جالية لبنانية في المهجر، ونفي صفة الخصوصية التي يرسمها حول وضع وجودهم تحت سلطة كيان احتلال يجمع اللبنانيون على توصيفه بالعدو، رغم ما يحمله ذلك من مخاطرة تضع كيان الاحتلال ضمناً بمنزلة تشبه أي دولة عربية أو اجنبية تستضيف جالية لبنانية، حيث لا حاجة للرقابة، ولا سريان للمنع، ومفردة الحالة الإنسانية كافية لإسكات أية مساءلة قضائية أو تدقيق أمني، ولأن المطلب سقفه عال، فلا مانع عند البطريركية من حصر هذا التوصيف بالشق المسيحيّ منه.
– عملياً يدرك البطريرك استحالة الحصول على أي تكريس قانوني بالنصوص، في القضيتين، ويعلم أن أية تسوية يتمّ التوصل إليها ستبقى شفهية وظرفية، قابلة للنقض والتعديل مع تغيّر الظروف، ويعرف أن الممكن واقعياً هو الحصول عليه كان ممكناً التوصل إليه في جلسات مغلقة، مع مرجعيات قضائية يعرف أن ولاءها للبطريركية، أو مع رئاسة الجمهورية التي يعرف أنها سوف تسعى لتحقق له سقف الممكن في القضيتين، فلها مؤيّدوها في السلك الكنسيّ الذين لا تريد خسارتهم، ومظلة الحصانة تغريهم جميعاً، وقضية اللبنانيين في فلسطين المحتلة قضيته ولا يريد خسارتها ونقل مرجعيّتها الى جهات تخاصمه للمزايدة بها عليه وعلى تياره السياسي والحزبي على أبواب نهاية عهده، لذلك لا تكفي القضيتان لتفسير موقف البطريرك.
– قضيّتان أشدّ أهمية في السياسة تفسران الموقف، الأولى هي ما تناهى للبطريركية عن فقدان زمام المبادرة في المعركة التي أطلقها تحت عنوان الحياد والعداء مع السلاح بوجه حزب الله، في ظل تفاعل شعبي لبناني عام مع دور حزب الله في قضية ثروات النفط والغاز، وظهور حجم صحة الرهان على قيادته وسلاحه وتوظيف مقدراته ومعادلاته لخدمة مصلحة لبنانية لا مجال للخلاف حولها، ما يستدعي تجييش الشارع والإعلام والسياسة في قضية لا علاقة لحزب الله بها، لكنها قابلة للتوظيف ضده بالإيحاء والتلميح والتغميز، للقول تذكروا أن حزب الله عدوكم فلا تبالغوا بالتصفيق له، والثانية ما تدركه البطريركية من حاجتها لصناعة مركز تفاوضي قوي في الداخل وفي التعاطي مع الخارج على أبواب انتخابات رئاسة الجمهورية، وما يستدعي ذلك من محاولة حشر حلفاء حزب الله من المسيحيين، وخصوصا المرشحين الطبيعيين منهم في قضية تتم تعبئة الشارع خلالها تحت عنوان يستهدف حزب الله، والهدف إحراج هذه القيادات ومطالبتها بموقف الى جانب الكنيسة، تفادياً للتشهير بها علناً ومحاصرتها في الشارع.
– الحصيلة ظهرت في فشل محاولات تحشيد الأحد في الديمان، بصورة تستعيد حشوداً زادت أضعافاً في قضايا أخرى، رغم توجيه الدعوات للحشود من القوات اللبنانية والكتائب، وما تبقى من جماعة 14 آذار، ولأن حزب الله لا علاقة له أصلاً بكل هذه القضية، وقد تمّ الزجّ باسمه بصورة مفتعلة فيها، فلا هو تفاعل سلباً مع الاتهامات، ولا الناس تفاعلت معها ايجاباً، ولأن أولوية حزب الله لا تزال قضية ثروات النفط والغاز، فهو يتسامح مع كل الاتهامات المباشرة وغير المباشرة التي طالته، افتراء، بما فيها الهتافات المشينة التي صدرت في حشود الديمان، فهل تقتنع البطريركية بالعودة الى ما كان يجب عليها فعله قبل هذه المعركة الخاسرة، طالما أن قضية المطران قابلة للحل على طاولة صغيرة في غرفة مغلقة؟