يحيي وفرقته مساء غدٍ أمسية في دار سعاده الثقافية والاجتماعية في ضهور الشوير د. هيّاف ياسين لـ «البناء»: الموسيقى باب وطريق يذهب بالإنسان إلى السمو والارتقاء أول مدوّنة موسيقيّة في تاريخ البشريّة صادرة من الساحل السوريّ
حاورته ـ عبير حمدان
يؤمن الدكتور هيّاف ياسين أن الجيل الشاب قادر على الغوص في القيم الموسيقية العميقة البعيدة عن السطحية لكونه يحمل في داخله قوة تغييرية عظيمة، لافتاً إلى أن العودة الى الجذور ليست مساراً تراجعياً، كما أن الاتجاه نحو الحداثة لا يعني التقدم، إنما المطلوب هو التواتر بين التاريخ والمستقبل لنعيش الحاضر بمعنى أن نأخذ الزاد السليم من التاريخ ونحاول ان نبني مستقبلاً أفضل.
يلتقي د. ياسين مساء غدٍ السبت حضوراً آمن أن الموسيقى أبعد من التوصيف الترفيهيّ ووفق تعبيره يرى أنه يطل على كوكبة من الناس الباحثة عن مجد الأرض السورية ومجد الثقافة المنتشرة في بلاد الشام ليؤكد أن الأمسية التي سيحييها مع فرقته في دار سعاده تتمايز عن حالات المهرجانات السائدة وتوظف الموسيقى في إطارها الثقافي الصحيح.
ويشدّد د. ياسين على أن الموسيقى ليست وسيلة للترفيه إنما هي أعمق من ذلك بدليل أنه سيقدم للحضور أول مدوّنة موسيقية في التاريخ وهي مبنية على نظام تدويني معقد وسليم هو الأول من نوعه في العالم، ومن يتخيل هذه الصورة حقيقة يمكن له أن يقارب مستوى التقدم والوعي والرقي في فكر أبناء هذه الأرض.
نبدأ الحوار حول عنوان الأمسية «التقليد الموسيقي الشامي» باحثين عن الجواب الذي لا يدركه الجميع ليفسر لنا الدكتور ياسين فحواه ضمن الإطار التاريخي للموسيقى في بلادنا، فيقول: «التقليد الموسيقي الشامي يُعنى به ذلك الإطار من الاداء الموسيقي عزفاً وغناء المعهود منذ قرون في بلاد سورية. وهذه التقاليد تحمل في طياتها الهوية الثقافية في المجتمعات المتنوعة السائدة في الأرض السورية.
وفي الغوص أكثر في المصطلح علمياً، فإن التقاليد الموسيقية نوعان كبيران، نوع مختص بالموسيقى الكلاسيكية ويسمّى بالتقليد الفني وآخر مختص بالتقاليد الشعبية بين مزدوجين «الفلكلورية» وهي تختص اكثر بجغرافيا ضيقة، فأتى اختيار هذا الاسم اليوم لهذه الامسية لكونه سوف يغطي بالحجم الجغرافي سلسلة من الانماط الموسيقية السائدة في هذه الأرض العظيمة ويغطي أيضاً التقليد الموسيقي في شقيه الشق الفني الكلاسيكي الذي يحتوي على مستويات متقدمة من التعقيد النظري لهذه الموسيقى في نحوها وفي نظامها اللحني والإيقاعي بالاضافة الى التقليد الشعبي الذي يحمل سهولة ما معينة نحو هذه الموسيقى».
التأسيس من خلال ابتكار
نظام تدوين
أما في ما يتصل بأول مدوّنة موسيقيّة في تاريخ البشرية، يقول: «للحقيقة هذا فخر كبير أن تكون أول مدونة موسيقية في تاريخ البشرية تصدر من الساحل السوري من مدينة أوغاريت، وهذا ليس غريباً على هذه البلاد المتجذرة في التاريخ الانساني والعميقة في بناء الحضارة الانسانية أن تصدّر بداية الحرف وأن تصدّر اللغة إلى العالم والأهم من ذلك أن تصدّر أعقد الفنون وهي الموسيقى. وليس فقط ان تصدّرها عزفاً وغناء وما شاكل ذلك بل ذهبت أكثر الى التأسيس لتقعيد نظريات هذه الموسيقى من خلال ابتكار نظام تدوين. ما هذه العظمة، من قرابة ثلاثة آلاف وخمسمئة عام كان هناك في هذه الأرض الشامية السورية العزيزة موسيقى بهذا الحلا والجمال والرقي، وهي مبنية على نظام تدويني معقد وسليم هو الأول من نوعه في العالم، ومن يتخيل هذه الصورة حقيقة يمكن له ان يقارب مستوى التقدم والوعي والرقي في فكر أبناء هذه الأرض. ويضيف: «نحن لا نتكلم فقط عن عزف للموسيقى ولا نتكلم عن غناء، هذا موجود في الكثير من بقاع الأرض بل نتكلم عن مرحلة متقدمة حيث هناك نظام لتدوين هذه الموسيقى وايضاً يمكن أن نقول إن الشعوب تتكلم لغة والآن نجد لهذه اللغة قواعد، إن اخذنا على سبيل المثال اللغة العربية التي كانت رائدة في العصر الجاهلي مثلاً لم تقعّد إلا في العصر العباسي بدءاً من سيبويه ومن تلاه. هناك أربعة قرون للوصول الى هذه المرحلة فكيف ذلك إن تخيلنا يحدث مع الموسيقى إذاً كم هو هذا المستوى متقدم من الرقي، حقيقة في إعجاز ومفخرة ونحن سعيدون اننا جزء من هذه الثقافة السورية العظيمة وأن لنا الشرف اليوم في أداء وافتتاح الامسية بهذا اللحن العظيم وهو النشيد الحوري السادس».
التسطيح سياسة ممنهجة
للنيل من مجتمعاتنا
ونسأل د. ياسين عن مقدرة الجيل على التفاعل مع القيم الموسيقية النقية في ظل التسطيح والتشويه الحاصل وهل هناك إمكانية للحفاظ على الأصالة الفنية، فيجيب: «كما تفضلتم وأشرتم نعم في هذا الزمن تشويه كبير وانتشار كبير للمفاهيم المسطحة والسطحية وربط الانسان هذا الكيان المفكر والذكي فقط بسلسلة من الغرائز السطحية البديهية وإبعاده أكثر فأكثر عن عمقه الانساني في أنه يتجلى ويرتقي في عمقه الانساني ويتفوق على أي نظير آخر في الإنسانية فيصبح الأقوى في هذا الزمان. واضح ان المقصود بهذا التسطيح هو الحذو أكثر باتجاه |إضعاف هذه المجتمعات لذلك نرى سياسة ممنهجة على هذه المجتمعات أي مجتمعاتنا تفضي الى تعميم ثقافة السطحية فيها.
بعيداً عن هذه النظريات السائدة من المفترض ان نقدم طرحا مغايراً، طرحاً نخبوياً يعود بنا الى أسس التفكر الانساني المعروف عبر التاريخ والى التعمق أكثر في ذاتنا الانسانية بحثاً عن الارتقاء وبحثاً عن الكمال، لذلك تم اختيار نهج الأصالة المتأصل والمتجدد. وهنا المفهوم يحتاج الى توضيح فهناك من يدمج بين التأصل والعودة الى الجذور ويعيش في حالة من القوقعة ان صح التعبير، وهناك من يذهب الى تلك الجذور كي ينهل منها ومن نهوجها حتى يستطيع أن يبني نهجاً جديداً آخذا بعين الاعتبار تلك القيم العظيمة والتجارب الهائلة للانسانية فيها، هذا في يخص الشق الاول من السؤال. أما الشق الثاني فإن هذا الجيل الشاب الطموح الموجود حالياً وحتى الأجيال التي ستأتي من بعده فنحن نؤمن بها أنها اجيال شابة قوية عظيمة تحمل في طياتها قوة تغييرية عظيمة؛ هذه القوة تسمح لها في ان تبحث في هذه الموسيقى. في النهاية الموسيقى حين يتم تقديمها فهي عبارة عن طرح يصل الى المجتمع ويتلقاها كلُ على طريقته الخاصة».
ويضيف: «نعم نؤمن ان الجيل الشاب وخاصة في هذه الفترة يبحث وبقوة عن ذاته أكثر فأكثر وعن إصالته اكثر فأكثر للانطلاق نحو الأمان، ونحن أيضاً لسنا بمعزل عن هذا الجيل الشاب، فنحن فرقة شبابية كلها شباب وروادها شباب وفي تاريخ تسجيلاتها مر شباب وفتيان وفتيات في اعمار يافعة للدلالة على قدرة هذا الجيل الشاب للتفاعل مع هذا النهج الموسيقي وأن يقدمه كما يراه ودون ان يتعارض معه.
في العودة الى الشق الأول من السؤال فإن ثقافة السطحية قد تطرح بعضاً من الالتباس في مخيلة بعض الشبان فيفكر انه في العودة الى الجذور كأنما هو مسار تراجعي وان التقدم دائماً هو أن يذهب باتجاه نحو الحداثة وهنا اقول له لا، فالمسار الزمني ليس المُحدد للمستوى الثقافي، مثلا ليس بالضرورة ان نكون اليوم كمجتمع على مستوى متقدم من الثقافة لما كنا عليه منذ مئة عام أو خمسين عاما، عندما نتقدم بالزمن فليس بالضرورة ان نتقدم في الثقافة والعكس صحيح. مثلا جذور الثقافة العظيمة والفلسفية موجودة في اليونان وعادت وانتشرت في البلاد الشامية والارض السورية وايضاً مشت في كل العالم، ليس بالضرورة ان ننكر تلك الفترة القديمة التي تحمل في طياتها الكثير من الرقي والتقدم الإنساني ونربط ان التطور الزمني هو سيد الموقف وبالتالي كل المفاهيم افضل من القديمة. لا إطلاقا، المسألة نسبية وفي كل فترة يمكن أن نجد مفاهيم فضلى ومثلى، ولكن ليس ضرورياً ان تكون أفضل.. إذاً هذا المسار ليس مساراً أعمى إنما هو يحتاج الى وعي ونحن دائما على ثقة بهذا الشيء لذا نضم صوتنا الى صوت الشباب ونحن منهم بأننا القدرة التغييرية وباستطاعتنا أن نبحث عن ما نريد ونحقق ما نريد، وليست الحداثة هي العنوان الوحيد للبحث وليست العودة الى التاريخ كذلك، يجب ان نتواتر بين التاريخ والمستقبل وأن نعيش الحاضر وهو أهم زمن بشكل سليم، بمعنى ان نأخذ الزاد السليم من التاريخ ونحاول ان نبني مستقبلاً أفضل، لذا فإن الاجابة عن هذا السؤال قطعاً هي نعم، وهذا الجيل الشاب قادر على الغوص معنا في القيّم الموسيقية العميقة».
مناسبة عظيمة في صرح
يحمل رمزية كبيرة
ونختم حوارنا مع د. ياسين حول تمايز الأمسية ورمزية المكان والمناسبة، فيقول: «في هذه المناسبة العظيمة شرف كبير ان تكون لفرقتنا المتواضعة فرصة المشاركة في هذا الصرح العظيم الذي يحمل في طياته الكثير من الرمزية الانسانية وان نطل على كوكبة من الناس التي تبحث عن مجد الأرض السورية ومجد الثقافة المنتشرة في بلاد الشام وعادة ما تُقرن المهرجانات خصوصاً الصيفية منها في لبنان بالإطار الترفيهي فقط فنجد الآن قراراً مغايراً حكيماً يذهب باتجاه توظيف الموسيقى في إطارها الصحيح وهو الاطار الثقافي؛ وهذا تميز وتمايز عن حالات المهرجانات السائدة اليوم التي نراها تبغي فقط الحالة الترفيهية، ليست الموسيقى وسيلة للترفيه فقط هي تحوي في طياتها ترفيهاً إنما هي أعمق من ذلك وقد اشرنا في مقدمة حوارنا خصوصاً حين تكلمنا عن اول مدونة في التاريخ عن عظمة الموسيقى وعن عظمة الشعوب التي تتعاطى مع الموسيقى.. الموسيقى باب او طريق من احدى الطرق التي تذهب بالانسان الى السمو أكثر فأكثر والى الارتقاء أكثر فأكثر للتعرف على انسانيته. ومطلوب منا هذا المسار ان كنا نريد ان نحقق انسانيتنا بشكل صحيح، فكل الشكر للجهة الداعية ونأمل أن تكون الأمسية عند حسن ظن الجميع ويتمتع بها كلُ على طريقته الخاصة وبعمق انساني شديد».