«أرض الزئبق» لنعيم تلحوق بحث عن ماهية المعنى وولادة وطن في نفس كاتب حين قرأ أنطون سعاده
عبير حمدان
أسئلة معلقة بين تراب الوجود وأساسه حيث يراكم نعيم تلحوق عناوينه بما فيها من معنى يبحث عن ماهيته وفق تصور من يرى في اللغة متعة لاستشراف المكان وارتباطه بالحوادث التي نعيشها منذ السؤال الاول الذي نطرحه عن سبب مرورنا على هذه الأرض.
الشاعر والكاتب تلحوق الذي يقرّ أنه لا يوجد رواية بالمعنى الحقيقي للكلمة سواء على مستوى لبنان او على مستوى العالم العربي لكونه يرى ان الرواية ليست مغامرة او استذكار اختلقها كاتبها وليست حكاية او سيرة ذاتية… إنما هي وفق حبره هوية ووجود ومعنى لذلك نراه يراكم المعنى بعناوين كثيرة «سبيل المعنى، بلاغة المعنى، شجرة المعنى، انحناء المعنى، آفة المعنى، بياض المعني، وثبات المعنى وجسد المعنى….».
تلحوق الذي استشعر البلاغة من جلباب أبيه نلمح بين سطوره امتناناً ممتزجاً بشيء من اللوم لكونه لم يعش طفولته على مهل، حيث اعتاد أن يجالس الكبار وكأن والده أراد أن يولد مجدداً من رحم معرفته بكل ما أوتي من علم ومعرفة وهو الذي حاصرته ظروف الحياة لتحول بينه وبين «الشهادات»، هنا يصبح الحلم مغايراً ويسرد الكاتب في مضمونه قصصه فيقول «حلمت مرة أن أمي نهرتني لأني حلمت، وأبي أشهر «سمينوفه» القديم على ملائكة تفرفر فوق رأسي.. استفقت من نومي متشوقاً لمعرفة ماذا يريد أبي من أحلامي، ولماذا استفاق جسدي على مزحة من أمي كبّدتني حزناً ثقيلاً طوال عنفواني».
ويكمل معناه الذي ربطه بالبلاغة ليكتب: «سمعت حينها كلاماً لجبران يقول فيه إن أحلام الذين ينامون على الريش ليست أجمل من أحلام الذين ينامون على الارض…»، بعيداً عن تحليله ورؤيته للمعنى يمكن للقارئ أن يتخيل شكل أحلامه انطلاقاً من فلسفته الخاصة ومقدرته على فهم الرسالة التي يريد إيصالها من يعمل على تشكيل المعنى كسردية ضمن دفتي كتاب، ويبقى الحلم مساحة خاصة معلقة بين الأرض والسماء.
يتابع الكاتب رحلته بين معانيه التي لا تنتهي وفي كل مرة يعود الى نقطة الصفر فهو الذي اكتشفت في لحظة ما ان الثقافة لا تكمن في القراءات أو في عدد الكتب التي نؤلفها وننشرها إنما الثقافة هي في المجهول من الكلام لا في المعلوم منه، لعلها تنبع من ذاتنا خلال بحثنا عن خفاياها وحكاياتها المستترة بين تجارب الزمن ويبقى السؤال هل يكفي أن نعيش تجاربنا لنراكم ثقافتنا كقراء قد لا نفقه ما هو مستتر في بال الكاتب المقيم بين مؤلفات الفلاسفة وهو الذي بدأ يبحث عن كينونته بسقراط «أعرف نفسك» ليخلص أنه لا يعرف شيئاً ثم انتقل الى «جمهورية أفلاطون» وبعدها إلى الفارابي و»مدينته الفاضلة» واستمرّ في مسيرته المعرفية محاججاً علي بن أبي طالب معلناً أن الإمام غلبه في نهج البلاغة… والاسئلة لا تنتهي أبداً.
يصل تلحوق الى الثبات في المعنى بعد مسار صعب من الشك ليقول: «لم أشعر أن وطناً يولد في داخلي إلا حين قرأت انطون سعاده (..) وحين قررت أن أقرأ سعاده، تيقّنت لماذا أنا، ومن أكون ولماذا يجب أن استقبل العالم بالرحابة والسمو في قلبي وروحي وعقلي.. فأدركت أن الحلم ليس مناماً لا واعياً، بل هو ضرورة ليكون لك قضية تساوي وجودك وفهمك لنفسك، وانتبهت أن الحب ليس طرفاً إيجابياً في معادلة الصراع، وإنما الصراع عينه، كما الحرية.. وقد يكون أكثر من ذلك أيضاً، هو حقيقة أمرك».
حين وجد الكاتب ثباته أكمل طريق التعب وشغفه وعبثه باللغة نحو باقي المعاني وصولاً إلى السكون مستذكراً في آخر الكلام أصابع والده الخمسة التي طبعت على وجهه أول الاسئلة ومضت به للبحث عن سرها وجميعنا نبحث عن سر قد لا ندركه إلا في لحظة سكون نقتنصها من حياة ظاهرها معقد، فيما يمكننا أن نحياها ببلاغة البساطة..
يذكر ان «أرض الزئبق» بتصنيفه «سردية المعنى» لنعيم تلحوق صادر عن فواصل للنشر بطبعته الأولى 2022 وهو من الحجم الوسط ويقع في 160 صفحة، والغلاف من توقيع الفنان علي عاصي.