آخر الكلام ـــــ الأمين مهاب حسان… جبل النهضة ونبع الحب*
نظام نصير
نودّع اليوم شخصية فريدة جامعة لكلّ مكوّنات الحياة وقيمها. هذه الشخصية الفريدة نشأت في عرين الجبل الشامخ ومن هنا بدأت رحلة الأمين مُهاب محمد حسان.
ولد الأمين مُهاب في بشامون وقضى حياته ينهل من قيم والده الفاضل المرحوم محمد حسان حتى امتلأت جعبته بمخزون كبير من القيَم والنبل والكرم بشهادة كلّ من عرفه في هذه الحياة.
هذا المخزون الفائض بالمحبة والحنان والقيم تغلّب على كلّ افآت المجتمع فأصبح اسم مُهاب (الجبل كما اعتدت أن أناديه) مرادفاً لجمال الحياة وقيَمها الجميلة حيث يأخذ الجميع الى حياة جديدة لا وجود فيها للكراهية والحقد والشخصانيّة.
هذا الجبل (مُهاب) هاجر إلى أفريقيا في ريعان شبابه ليعمل مع أخيه المرحوم حسان (أبو نضال) ومن ثم مع أخيه جهاد (أبو رائد)، حيث اختبر حياة الاغتراب الأولى واختبر تحدياتها وصعوباتها إلا انه كان دائماً صلباً، قوياً ومصمّماً على البناء والنجاح.
هناك انتمى الى مدرسة نهضوية فكرية بعد أن رسخ في أعماقه بأنّ هذا الفكر هو الخلاص الوحيد لأمتنا وشعبنا.
هذا الانتماء كان بداية مسيرته النهضوية اختبر خلالها حقيقة الصراع في الحياة من أجل عقيدة تساوي وجوده، فتواجد في كلّ ميادين الصراع مدافعاً ومناضلاً ومسانداً فقدّم الغالي والنفيس في سبيل النهضة وعزتها.
بدأ اغترابه الثاني عندما قرّر الاستقرار مع إخوانه في دولة الإمارات في السبعينيات حيث أسّسوا معاً أعمالاً عملاقة وظفوا فيها الآلاف وأعطوا فرصاً للجيل الجديد المغترب للعمل لإعالة آلاف العائلات في الوطن.
كان مُهاب جبلاً عن حقّ، حيث كان يُحسب له ألف حساب فحين يطلّ بهامته الطويلة كانت ترتعد الأرض تحت قدميه ويهابه الجميع عند مقاربته للقضايا القومية.
كلّ من عرفه اختبر فيه هذا الجانب حيث كان صريحاً وواضحاً حتى آخر الحدود لا يهاب شيئاً أبداً بل يهابه الجميع لأنّ كلمة الحق دائماً هي المدوية في حديثه.
عرفه الكثيرون من الشخصيات في الوطن والاغتراب وكانت له صداقات وعلاقات على أعلى المستويات، وكان الجميع يحبّه ويحترمه لأنهم وجدوا فيه إنسانية باتت مفقودة في عصرنا هذا.
أما أنا، فقد عرفته منذ طفولتي حيث تعود بي الذاكرة الى الثمانينيات، حيث كانت تربطه بوالدي صداقة عميقة. وبعد عودتي الى الإمارات التقيت به مجدّداً، وصداقته صداقة لا وصف لها في قواميس هذا الكون.
أصبحنا توأماً لا ينفصل نقرّر سوياً كلّ الأمور بتشعّباتها وأشهد أمام الله بأنه بالنسبة لي كان أباً وأخاً وصديقاً ورفيقاً وقد حاولت مراراً أن أجد كلمة تعبّر عن عمق هذه العلاقة التي أنجبتها الحياة إلا أنني عجزت عن ذلك.
ترافقنا في مشوار طويل وخلالها تعرّفت عليه بالصميم فوجدت فيه نبعاً من الحب والقيم لم أجدها في أيّ شخص عرفته في حياتي.
مُهاب شخصية فريدة تنجبها الحياة نادراً تماماً كالمفكرين والمناضلين الكبار الذين يتركون بصمة في تاريخ الأمم والشعوب. لقد أحب الحياة كثيراً فأنصفته حيناً وظلمته حيناً آخر، لم تنصفه عدالة هذا الكون فخطفت منه أحب الناس إلى قلبه إلا أنه بقي جبلاً شامخاً لا تنال منه العواصف العاتية او الهزات الارتجاجية لأنّ عمقه عمق الإنسان بالتاريخ.
بالرغم من حالته الصحيّة التي أثرت على حركته بقيَ جبلاً، يصارع الآلام وكأنها نسمة ريح عابرة، يصارع الوقت وكأنه في زمن آخر، يصادق الحياة ويتمتع بها مع رفاقه فيحضنهم بمحبة وحنان لا وصف لهما.
في كلّ مرة نجتمع سوياً تعمّ الفرحة قلوبنا وكأنه سحر ليس من ساحر بل من قديس يوزع المحبة والخير أينما حلّ.
يناديني دائماً بـ «نور العينتين»، يا لله ما هذا التعبير المعبّر عن قيَم الحياة وجمالها؟! وكم يحمل هذا التعبير من مكنونات عميقة صادقة تعبّر عن إنسانية فائضة في زمن أصبحت فيه الإنسانية مفقودة في مجتمعنا؟
كنت أقول له دائماً «يا صاحب القلب الكبير» هذا القلب يتسع لجميع محبّيه وكأنه جاء الى هذه الدنيا بمهمة من السماء ليحضن الجميع ويُسكنهم قلبه الكبير.
اعذرني أبا محمد، يا رفيق الدرب والعمر والحياة،.. أعذرني لأنّ كلماتي ستبقى ناقصة وعاجزة عن وصفك وتفنيد تاريخك الناصع بالقيم والمحبة والإنسانية… أعذرني لأنني لا أملك البلاغة في التعبير عن عمق محبّتي لك بل أملك قلباً مكسوراً لا يقوى على مجرد التفكير بفقدانك… أعذرني يا أميناً صادقاً وفياً في وجدان الامة.
كان يردّد الأمين الحبيب عندما تسأله عن صحته وحتى وهو في أيامه الأخيرة «الحمدالله… بألف نعمة،» بهذه العبارة اختصر المعاناة وكأنه من مكان وزمان مختلف عن البشر، عبارة لا يردّدها إلا القديسون، يا أخي الحبيب.
كنت تردّدها سابقاً لحبيب قلبك الأمين جبران وهو يصارع للحياة، وكنت تردّدها لتخفف عنا أعباء الحياة وكنت تردّدها لنفسك عسى أن تخفف عن نفسك ثقل الهموم وغدر الزمان.
أما أنا فأقول لسنا بألف نعمة بدونك يا توأم الروح ولن نكون أبداً، فالجرح لم يندمل بعد على أبو رئيف، وها هو ينزف مجدّداً عليك، وقد يطول النزف الى ان نلتقي مجدّداً في حضرتك أيها المارد العملاق، أيها الجبل الشامخ، ايها المُهاب الحبيب يا نور العينتين اللتين لن تنطفئا طالما نورهما من وهجك المشعّ وطيفك الباقي بقاء الحياة.
مُهاب أقسم بروحك الطاهرة بأنك ستظلّ تشعّ بيننا وفي مجتمعك الذي خدمته طالما فينا روح تنبض، وأنت تعرف بأنني لم أخلّ بوعد قطعته لك يا أبا محمد.
استرح يا أخي من مشقة هذه الحياة وعذاباتها واجلس بجانب القديسين أمثالك وانتظر رسائلنا في كلّ لحظة، لأننا لن نتركك مهما بعدت المسافات.
سنكمل المشوار مع الغالي أبي رائد والأخت الغالية الحنونة مايا والأخ العزيز محمد ومع حبيب قلبك هشام ورفقاء الدرب طوني وجورج ومحمد وأسامة وعقل وسمير ووسام وزياد وسهيل والأهل ومئات المحبّين المخلصين وسنحرص على وجودك معنا في كلّ محطة في هذه الحياة.
أبا محمد، ستفتقدك الأمسيات والجلسات والنقاشات، ستفتقدك الإمارات الحبيبة وشعبها الذي صادقته بمحبة وإخلاص، ستفتقدك عيوننا بالرغم من أنك ساكن قلوبنا، سيفتقدك أولادنا، أولادك الذين رعيتهم بمدرسة حنانك وحبك اللامحدود حتى أصبحت القدوة لهم ورمزاً يفتخرون به، وستسألني عنك بترا حبيبة قلبك كلّ يوم وأليسار ستفتقد تقبيلك واحتضانك وراغدة ستنتظرك لتطلّ علينا لتلقي تحية الحب إليك ونقولا حبيبك سيبكيك كما نبكيك جميعاً وستبقى منقوشاً في قلبه وذاكرته.
مُهاب لن أقول وداعاً أبداً، لأننا اتفقنا يا أغلى الناس على عدم الافتراق ونحن على الوعد باقون…
مُهاب الى اللقاء يا أخي… لقاء جديد لا وجع فيه ولا ألم بل فرح وسعاده مع سعاده والأحبة والمناضلين…
ختاماً سأردّد على مسامع الجميع كلماتك الأخيرة لرفقائك «عودوا الى سعاده عودوا الى سعاده.. فهذا هو الطريق لوحدتكم وكفاكم مكابرة. فالنهضة بحاجة الى رجال نهضويين يحملون فكر سعاده وقيمه».
إلى اللقاء يا أخي… والبقاء للأمة.
*كلمة وجدانيّة ألقيت باسم أصدقاء الأمين الراحل مُهاب حسان خلال تشييعه في مسقط رأسه في بشامون يوم السبت في 30 تموز المنصرم.