التعليق السياسي
في ذكرى 4 آب: الفرضيّة التي لم تناقش بجدّيّة
ككل القضايا التي مرّت بلبنان واللبنانيين، والمحن التي ألمّت بهم، والكوارث التي نزلت عليهم، تحوّلت قضية انفجار مرفأ بيروت الى منصة لتقاذف الاتهامات، واللعب السياسيّ، وتبرّع الكثيرون بأدوار خبراء فراحوا يركبون سيناريوات وافتراضات لخدمة موقعهم السياسي، بمعزل عن مدى قربها من الواقع أو تعبيرها عن صدق الحديث عن الالتزام بحقوق الضحايا بالحقيقة والعدالة.
التحقيق القضائي لم يكن بعيداً عن هذا التوصيف، فغابت عنه الضرورات القانونية البسيطة، كالإجابة عن سؤال حول المسؤولية عن التفجير، رغم أهميته في إظهار الحقيقة وفتح الباب نحو العدالة، وليس عن مسؤولية التقصير لسهولة توظيفه في اللعب السياسي، فذهب للثانية وتخلى عن الأولى، بل تخلى عن نشر التقرير التقني المجمع عليه داخلياً وخارجياً، رغم حيويته بالنسبة للمصابين في تحصيل أموال التأمين العالقة، بما يلقي شبهة خدمة غير مجانية لشركات التأمين، والسؤال عن مسؤولية التفجير يبدأ من أولوية التحقيق مع الذين وافقوا على دخول المتفجّرات وتخزينها وكانوا يملكون صلاحية التصرف ولم يستخدموها، وهم مسؤولون عسكريون وقضائيون بقوا خارج التحقيق الجدّي.
يبقى السؤال الجوهري الذي يطال تعطيل مسار التحقيق، والمتصل بالانقسام حول إحالة ملاحقة الوزراء والرؤساء أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وهو انقسام مستمرّ، وسيبقى قادراً على تعطيل التحقيق، لكن أحداً لم يكلف نفسه عناء مناقشة فرضية ماذا لو تم تسهيل نقل ملاحقة الوزراء والرؤساء الى المجلس الأعلى، فما هي الاحتمالات؟
يجيب البعض فوراً أن النتيجة هي التمييع وصولاً لتضييع الحقيقة والعدالة، فهل هذا صحيح؟
الشيء الأكيد هو أنه في هذه الحالة ستزال العقد من طريق التحقيق العدلي فيما يتعلق بغير الوزراء والرؤساء، ولأن الحقيقة واحدة حول كيف تمّ التفجير، ومَن جلبها ولمن تعود ملكيتها، ومن وافق على إدخالها، ومن أمر ببقائها، ومن منع الأخذ بالتحذير من خطورتها. وهذا التحقيق يملك كامل الصلاحية بإظهار أدوار رؤساء ووزراء ان وجدت، مع الاشارة الى أن ملاحقتهم محجوبة عن المحقق بسبب انتقالها إلى المجلس الأعلى، ما يعني أنه في شق كشف الحقيقة لن تتأثر قدرات المحقق العدلي على قول كل ما توصل اليه، وهو ومن يرفضون السير بهذا الخيار يعطلون بوعي فرصة معرفة الحقيقة، ويفضلون إطلاق النار السياسي على تمنع الرؤساء والوزراء عن المثول أمامه.
يبقى الشق المتعلق بالعدالة، أي بالمحاكمة. فالمعلوم أن المجلس الأعلى يتشكل من خمسة عشر عضواً، سبعة نواب ينتخبهم مجلس النواب، موزّعون على الكتل النيابية، وليسوا على رأي واحد، وثمانية قضاة هم أصحاب أعلى الرتب القضائيّة، أي جزء هام من أعضاء مجلس القضاء الأعلى، والمجلس العدلي، ورئيس المجلس الأعلى للمحاكمة هو رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس المجلس العدلي، ما يعني في حال وجود نيات للتمييع أحد احتمالين، اما إفشالها بالأغلبية الممكن تشكيلها في المجلس الأعلى، أو بالحد الأدنى فضحها ونقلها الى محكمة الرأي العام، لفتح معركة إسقاط المجلس الأعلى بدليل الحماية التي قام بتوفيرها للمتهمين.
السؤال المحيّر لماذا لم يتم سلوك هذا الطريق من قبل الذين يدعون الحرص على كشف الحقيقة، رغم قصر طريقه بوضع التحقيق العدلي أمام تحدّي قولها كاملة، ورغم إتاحة فرصة لتحقيق العدالة أمام المجلس العدلي والمجلس الأعلى أو على الأقل أمام محكمة الرأي العام، وتحويل المجلس الأعلى عندها إلى متهم وشريك بالجريمة.
التفسير الوحيد هو أن التحقيق العدلي لا يريد بلوغ الحقيقة بل تطبيق مفهوم فريق سياسي للانتقام من فريق سياسي آخر، بدأ باتهامه منذ اليوم الأول، ووجد في استثمار القضيّة منصة مناسبة لمواصلة ذلك، والفرق كبير بين الحقيقة والعدالة من جهة، والانتقام السياسي من جهة أخرى، ولعل أكبر الأخطاء التي يواصل كثيرون الوقوع فيها هي ربط تحقيق 4 آب بثورة 17 تشرين، والقول إن التحقيق هو أداة لتحقيق أهداف الثورة بالنيل من الطبقة السياسية، كما يواصل الكثيرون القول من أهالي الضحايا، والإعلام الذي يدّعي مسؤولية ملاحقة القضية، وصولاً لما نقل عن المحقق العدلي نفسه.