نافذة ضوء
الانتماء القـوميّ الاجتماعيّ عـقيدة شعب عرف حقيقـته فـنهض
يوسف المسمار*
الكائن البشريّ الذي لا يعرف ولا يحاول أن يعرف بالرغم من توفر من يعلّمه كي يعرف ليس إنساناً، ولا يستطيع أن يكون إنساناً.
ومَن لا يستطيع أن يكون إنساناً ولا يسعى كي يكون إنساناً، فهو لا يستحق نعمة الحياة ولا أن يحيا الحياة.
فأبناء الحياة هم وحدهم أبناء النور والمعرفة والسعي الى الاستزادة من المعرفة والعلم والسير في فضاء النور والوضوح.
والحياة في المفهوم الأرقى ليست في استمرار العيش كيفما كان، ولا هي في الهروب من العالم الإنساني الى ما وراء العالم وإنما هي في هذا الوجود، ومجابهة مصاعب الوجود، ومقاومة تحدّيات الوجود، والصراع بمواقف العز التي لا يقفها إلا الواعون المصارعون أعزاء النفوس وأحرارها ليغيّروا وجه تاريخهم للأفضل صانعين بوعيهم ومعرفتهم ومواقفهم وأفعالهم مجراه الجديد الأجود.
وأبناء الحياة هم المنتمون فعلاً للحياة، والعارفون الى أية حياة ينتمون، والمصارعون دائماً وأبداً بالوعي والمعرفة الحياتية الفاضلة المتجدّدة المتطوّرة من أجل الوصول الى معرفة حقيقتهم الوجودية الطبيعية التي يجب أن يكون انتماؤهم لها لا إلى غيرها ليكونوا جديرين ببنوتهم للحياة، فتبرز بانتمائهم وصراعهم قيم الحياة العليا والمُثل التي تحرّك مطامحهم في إنتاج تاريخ ثقافيّ تمدنيّ هم مُولّدوه ومبدعوه ومُطوّره ولا وجود له بدونهم.
وهذا التاريخ لا يمكن أن يكون بدون معرفة حقيقة انتمائهم الطبيعيّة الجوهريّة التي تتلخّص في القاعدة الأساسيّة التي توصل اليها العالم الاجتماعيّ أنطون سعاده في نهاية الفصل الثالث من كتابه نشوء الأمم بقوله:
«لا بشر حيث لا أرض، ولا جماعة حيث لا بيئة، ولا تاريخ حيث لا جماعة».
فكل انتماء لتاريخ زمنيّ من دون بيئة وجماعة ومن دون أرض وبشر هو انتماء جزئيّ وناقص ولا يصلح بالمطلق لنهضة.
والذين يدعون الانتماء إلى الكون ويتحرّكون بنواميسه متنكّرين لسلبيّتهم الواجبة تجاه الكون الماثل أمامهم، يعطّلون فعالية الحياة فيهم في أقبح تحنيط للعقل الإنساني، وأبشع تشويه لحضارات الأمم.
إن مسألة الانتماء في الفلسفة القوميّة الاجتماعيّة تتصدّر جميع مسائل الحياة، ولذلك بدأت بالسؤال الفلسفي الكبير: مَن نحن؟ أي ما هو تاريخنا؟ ما هو مجتمعنا؟ ما هي أرض وطننا؟ وهل يمكن أن تكون لنا حياة ونكون من أبناء الحياة بدون تاريخ وبدون مجتمع وبدون وطن؟ وهل يمكن حتى لو كان لنا وطن وكنا جماعة وكان لنا تاريخ أن نبقى أحياء أعزاء في ظل حراب عدو يمزّق الوطن ويفتت الجماعة ويمحو التاريخ؟
ولذلك يجب أن نطرح على أنفسنا سؤالاً كبيراً لا يقلّ خطورة عن السؤال الفلسفيّ الذي طرحه الفيلسوف أنطون سعاده: «من نحن؟». لنبني أنفسنا وننهض بأمتنا ألا وهو «مَن هو عدوّنا الذي يريد القضاء علينا؟»، لنتصدى له ونقاومه ونهاجمه ونقضي عليه إذا أصرّ على ذلك قبل أن يقضي علينا.
وما لم نعرف الى ما ننتمي كأفراد؟ ومَن نحن كمجتمع؟ وما هو تاريخنا؟ ومَن هو عدوّنا؟ وما يجب أن نفعل للحفاظ على وطننا ومجتمعنا وتاريخنا وحضارتنا؟ فلا نستطيع أن نعرف مَن نحن وما سنكون، وستظلّ قوانا تهدر، وطاقاتنا تبعثر، وإنساننا ينحطّ ويتخلّف الى أن نصل الى اليوم الذي لا نهوض لنا بعده، ولا ذكر إلا ما تتكرّم به علينا الأمم الحضاريّة القويّة حين تضعنا بين مصنفات بقايا الشعوب المنقرضة في متاحف آثارها.
فالانتماء المنقذ الذي يجب أن نعرفه هو معرفة حقيقتنا وليس الانتماء الوهميّ أو التخمينيّ سواء الانتماء المنكمش أو المنفلش، فكلا الانكماش والانفلاش عقدتان نفسيتان هروبيتان: الأولى تعبّر عن نفسية عاجزة خائفة تدفع بصاحبها إلى الانعزال فالتقزّم فالانغلاق فالاختناق. والثانية لا تشير إلا الى نفسيّة رومنسيّة حالمة تحمل صاحبها على الانتفاخ فالانفلاش فالتورّم فالضياع في الأوهام.
وهيهات هيهات تستطيع النفوس المنكمشة او المنفلشة إدراك معنى النهوض وطريقه وأغراضه.
إن انتماء الإنسان – الفرد هو الذي يحدد ويعين مقدار إنسانتيه. فالأنانيّ قيمته بأنانيّته، والفئوي بفئويته، والطائفيّ بطائفيته، والخائن مجتمعه بخيانته، والعميل للعدو المقلوع من جذوره بعمالته وتبعيته، والوطنيّ القوميّ المستيقظة في نفسه قضايا حياة أمته ونهوضها ومثلها العليا بوطنيّته وقوميّته وأبعادها الحضارية الإنسانية.
لقد عانى مجتمعنا ولم يزل يعاني الكثير من ويلات الولاءات المنكمشة الضيقة الخانقة التي لم تثمر في شعبنا إلا التفسّخ والتخلف والانحطاط، كما عانى ولا يزال يعاني أخطار مفاعيل الولاءات الجزئيّة الفرديّة والفئوية المعطلة لفعل الحياة الحرة الخيّرة. وعانى ولا يزال يعاني مطامع الأعداء المجرمين من كل الاتجاهات.
ولهذا فإننا مدعوّون إلى الرد على التحدي الوجودي المصيري الخطير بعد أن أفلست العقلــيّة الانكماشيّة والانفلاشيّة وثبت عجزها بالأحداث الماضية والراهــنة لننقذ إنسان أمتنا من هول الخراب والدمار والفناء المحدق بنــا، وذلــك لا يحصل إلا بهز وإيقاظ ضمير شعبنا وعقله ووجدانه، وتفجــير طاقاته وإمكاناته الكامنة، وإيقاظ كل ما في داخله من قوى الوعي والإدراك المتطلعة أبداً الى آفاق المستقبل المشرق بشمس الحضارة والمدنية والتفوق والنصر.
إن الفلسفة القوميّة الاجتماعيّة هي دعوة جميع أبناء الأمة الى الانتماء الطبيعيّ الحقيقيّ، والولاء الشامل الذي لا ينحصر في فرد أو أفراد، ولا في فئة أو فئات أو طائفة دون طائفة، ولا في شريحة اجتماعية دون أخرى، ولا في دنيين دون مدنيين او علمانيين أو في مدنيين علمانيين دون دينيين، بل هي دعوة جميع أبناء الأمة الى وحدة الحياة والنهوض بالحياة لتحقيق رقي الحياة، فليس بين أبناء الأمة مَن يُعفى من الجهاد للحفاظ على حياتها ومقاومة مَن يريد بها شرا ً ومهاجمة والقضاء على كل من يريد القضاء عليها.
هذه هي رسالة فلسفة القوميّة الاجتماعيّة. إنها رسالة إنسان حضاريّ ليس لنفسه فقط بل لجميع الأمم. إنها رسالة أمة لا تريد لغيرها إلا ما تريده لنفسها من تقدّم ورقي. فلا تعتدي على حقوق غيرها كما لا تسمح بالاعتداء على حقوقها.
إن معرفة الانتماء الصحيح هو البداية، والولاء السليم هو الدافع الى الأمام والأفضل، والجهاد القومي الاجتماعي هو الذي يحمي وجود الأمة ويصون حياتها، ويحقق لها ولأبنائها المصير العزيز جيلاً بعد جيل.
*باحث وشاعر قوميّ.