دروس جديدة من غزة
بشارة مرهج
تميّزت جولة الصراع الأخيرة بين الجيش الصهيونيّ والمقاومة الفلسطينيّة بإصرار تل أبيب على إظهار براعتها في اغتيال القادة الفلسطينيّين عبر الصواريخ الذكيّة ومن مسافات بعيدة تفادياً للمواجهات المباشرة التي لم تعُد مأمونة بالنسبة لها بسبب انتقال الفصائل الفلسطينية إلى مرحلة جديدة باتت تشعر فيها بثقة عارمة بالنفس وبالقدرة على مواجهة الآلة الحربيّة الصهيونيّة وجهاً لوجه والصمود بوجهها وأحياناً إلحاق الهزيمة أو الخسارة بها بما يتجاوز الفرضيّات «الإسرائيلية» القديمة ويفرض في كلّ معركة حقائق جديدة تذكّر قادة الاحتلال بوجود شعب يتعلّم من أخطائه ويطوّر إمكاناته مصمّماً على المواجهة تحت كلّ الظروف موحّداً ما استطاع مواقفه وساحاته وخنادقه.
والمعركة الأخيرة التي خاضتها غزة ومقاومتها الباسلة بوجه العدوان والاغتيال تستحق التحية والتقدير خاصة أنها استوعبت الهجوم الذي تركز على حركة الجهاد الإسلامي مستهدفاً إحراز المكاسب وإشاعة البلبلة في صفوف المقاومة والجماهير فخرجت غزة ومعها الضفة بعد ثلاثة أيام من المواجهات المستمرة أصلب عوداً وأكثر إدراكاً للمناورات الصهيونية التي نهشها الصدأ من فرط استعمالها.
بدون مقدّمات شنّ العدو الصهيوني عدوانه الغادر الذي استهدف إرهاب غزة وطلائعها المناضلة مقدّراً أنّ هجومه سيُعلي من شأن قياداته التي تعاني من الإرباك والانقسام وأصبحت بحاجة الى أيّ نوع من «الانتصار» توظفه لتحسين أوضاعها وترميم العلاقة بينها وبين الجماعات الصهيونيّة التي تهتزّ ثقتها بقادتها ومؤسساتها يوماً بعد يوم…
فبعد أن كان الكيان الغاصب يحاصر غزة وفلسطين والبلاد العربيّة ويشنّ عليها، متى شاء، الحروب الكبيرة والصغيرة أصبح اليوم بفضل صمود المقاومة وتوسّع رقعتها في الوطن والشتات، وبفضل دعم القوى الحليفة، وهبوب رياح التغيير على الصعيد العالميّ، أصبح يعدّ العشرة قبل الإقدام على أيّ مغامرة مختبراً في الوقت نفسه القلق والخوف بعد أن فارقه اليقين المفتعل الذي كان يحسب امتلاكه.
فعندما تندلع معارك داخل الأرض المحتلة وتضطرب مدن هي في صميم هذه الأرض وصولاً إلى تل أبيب نفسها، فمعنى ذلك أنّ المعادلات تتغيّر وأنّ قدرة العدو على ممارسة السطوة والهيمنة قد أصبحت محدودة بعد أن صار نفسه هدفاً أو مشروع هدف للمقاومة إثر كلّ اعتداء مما يقلب الموازين ويدخل الخوف الى بيت كلّ محتلّ أو مستوطن.
إنّ التضحيّات الجسيمة التي قدّمها الشعب الفلسطيني في الداخل كما في المخيمات لم تذهب سدى كما تدّعي بعض الأوساط المرتدّة أو المنحازة للعدوان، وإنما أثمرت هذه التضحيات وأزهرت وأصبحت إنجازاً ملموساً واقعياً يُبنى عليه للانتقال الى مرحلة جديدة على طريق الصمود والمقاومة والتحرير. وهذه المرحلة كما كلّ المراحل تتطلّب الوعي والخبرة بأحابيل ومكر العدو الذي يناور ويكذب ويخادع منذ تأسيسه على يد التحالف البريطانيّ الأميركيّ الاستعماريّ بهدف إخضاع العرب والإمساك بالطرق القارية والسيطرة على موارد العالم. كما تتطلّب هذه المرحلة تركيز وحدتنا وتجديد إيماننا وتعميقه بقدرة الشعب الفلسطيني وحلفائه، كما برؤية موضوعيّة تتابع تراجع قوى الاحتلال ومعها القوى الإمبرياليّة في العالم مما يعجّل في تحقيق النصر الذي من أجله استشهد مئات الآلاف ودخل السجون مئات الآلاف، وتشرّد مئات الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني، كما من أبناء الشعب العربيّ في لبنان وسورية ومصر والأردن والعراق وسواهم.
وتبقى العبرة الأساسيّة من معركة غزة وقبلها معركة الجنوب اللبناني أنه لا يمكن إلحاق الهزيمة بشعوب مصمّمة على الصمود والمواجهة وانتزاع حقوقها القوميّة والتاريخيّة، مهما كان الثمن ومهما طال الزمن.
أما دولة العدوان والاستيطان فلم يعُد بإمكانها بعد اليوم أن تؤدّب أحداً بالمواجهة القريبة أو بواسطة كتيبة من المجندات، إذ عليها أن تدفع غالياً ثمن كلّ خطوة متهوّرة تقوم بها سواء على الصعيد السياسي أو العسكري.