أولى

متلازمة أردوغان

سعادة مصطفى أرشيد*

امتازت حركة الاخوان المسلمين وأذرعها ومتفرّعاتها عن غيرها من تنظيمات الإسلام السياسي بالعملانية (بالبرغماتية) وإباحة اللجوء الى التقية والتحالف مع الآخر المختلف في الرأي والعقيدة لحين الوصول الى حالة التمكين، والجماعة تمارس السياسة بموجب قواعد السياسة لا بناء على الأحكام الشرعية ومنطق هذا حلال وذاك حرام. الأمر الذي يمنحها هوامش سياسية عريضة أحسنت وتحسن استعمالها أثناء الإعداد والانتظار والى حين تحقيقها نجاحات تقود للوصول الى حالة التمكين، ولكنها تخفق عندما يصيب الخلل تقديراتها وتتعجّل في تصوّرها انّ حالة التمكين ثابتة ومتواصلة. وهي بهذه الحالة لا تعود تحتاج للتقية، كما حصل معها في مطلع الربيع العربي، اذ ظنّت انّ تمكنها من مصر وتونس أمر باق غير قابل للخسارة، ثم ظنها انّ سورية لقمة سائغة او فاكهة ناضجة لقطافها سريعاً ما تتهاوى بين أيديها وأيدي حلفائها القطريين وشركائها الأتراك.

كانت دمشق قد استقبلت في مطلع الألفية التغيّرات التي حصلت في تركيا بابتهاج، وقدّمت تركيا استراتيجيتها الجديدة القائمة على التوجه شرقاً لا غرباً، وانّ سياستها الخارجية سيكون شعارها صفر مشاكل مع كلّ المحيط، فتوثقت علاقة دمشق بأنقرة كما لم يحدث منذ انهيار الدولة العثمانية، وتعاون البلدان في السياسة والاقتصاد وصولاً للثقافة، لكن الربيع العربي قلب كلّ تلك التفاهمات وتصبح العلاقة 100% مشاكل، ولتصل أحلام اليقظة العثمانية برجب طيب أردوغان لأن يعد بأنه سيقوم بإمامة المصلين في جامع بني أمية.

لمَ دعمت تركيا الربيع السوري الزائف بالمال والسلاح والسياسة، وساهمت بصناعة جماعات التكفير ثم تجاوزت ذلك باحتلالها أراضي في الشمال السوري، وأقامت إدارات تابعة لها وبإشراف وزاراتها في حين يزور أعضاء حكومتها الأرض السورية المحتلة وكأنها أراض تركية، فرضت تدريس اللغة التركية كلغة إلزامية وعلقت صور أردوغان في المؤسّسات الرسمية فيما استبدلت لوحات الإعلان والطرق اللغة العربية بالتركية، وذلك تمهيداً لإقامة منطقة عازلة على غرار دولة سعد حداد وأنطوان لحدّ في جنوب لبنان في زمن ليس ببعيد.

برغم التغيّرات التي طرأت على تركيا بعد عام 2002 الا انّ العقل السياسي التركي لا يزال يرى في الحركات الانفصالية خاصة الكردية خطراً على أمنه القومي، فتركيا تدرك انّ الأكراد عبر أكثر من قرن مضى كانوا قد ارتضوا لأنفسهم بأن يكونوا أدوات لقوى خارجيّة تدفعهم للتحرش بالدول الأربع التي يعيشون بها، سورية والعراق وإيران وتركيا، ثم لا تلقي تلك الدول بالاً لمصيرهم عند حصاد التسويات والنتائج.

تبدي تركيا الأردوغانية مؤخراً ومعها جماعات اخوانية أخرى بصدد القيام باستدارة جديدة، نلاحظها في تلميحات أردوغان إثر قمتي سوتشي وطهران، ونقرأها بوضوح في تصريحات وزير خارجيته جاويش أوغلو، الذي أعلن عن لقاء جمعه قبل شهور عدة مع نظيرة السوري فيصل المقداد، ثم عن استعداد بلاده للتوسط بين الدولة السورية ومعارضيها العاملين في خدمة السياسة التركية، فما الذي حدث لتنتقل تركيا من الحديث عن عملية واسعة في الشمال السوري الى هذا الموقف الجديد؟

مثل وصول حزب العدالة والتنمية للحكم نهاية الكمالية الأتاتوركية وبداية انطلاق الأردوغانية، التي سبق القول بان أعلنت عن سياستها الجديدة خارجياً والقائمة على قدمين، الأول التوجه شرقاً والثانية صفر مشاكل مع جوارها، ولكنها لاحقاً لم تقطع علاقتها بالناتو ولم تكفّ عن النظر ولو خلسة الى الغرب ومحاولة ابتزازه لقبولها في المجموعة الأوروبية، وتحوّلت علاقتها مع جوارها الى إشكالات وتدخلات ومحاولات سيطرة، هكذا مع اليونان وقبرص، مع سورية والعراق، في أرمينيا وأذربيجان وقضية ناغورنو كرباخ.

أصبحت أحمال أردوغان ثقيلة، تنقذه الجغرافيا في بعض جوانب الاقتصاد، كما في احتكاره لتوريد القمح الروسي والأوكراني، مخففة من الحمل الذي يبقى ثقيلاً، خاصة وهو مقبل على انتخابات رئاسية لم تعد بعيدة، ومعركتها هذه المرة أصعب من سابقتها، حيث انّ لخصومه فرصاً معقولة وفق استطلاعات الرأي، خاصة إثر خروج عدد من شركائه الذين دخل وإياهم معترك التغيير عام 2002 مثل عبد الله غول، أحمد داوود اوغلو، علي باباجان.

يحمل خصوم أردوغان في الانتخابات الرئاسية المقبلة ورقة سورية، فمن جانب يرون انّ الخطر على أمنهم القومي يأتي من الانفصاليين عموماً والأكراد خصوصاً لا من الدولة السورية، ومن جانب آخر يرون ومعهم المواطن التركي العادي ـ الناخب، انّ ستة ملايين لاجئ سوري هم فوق ما يحتمل، اذ ينافسونه في رزقه وعمله ومسكنه. وترى المعارضة انّ على أردوغان ان يتحمّل مسؤولية هذا الوضع الذي يمسّ المواطن التركي العادي والذي كان صوته في الغالب يصبّ لصالح أردوغان.

كان أردوغان في السابق قد استطاع استثمار ورقة اللاجئين هذه، يهدّد بهم أوروبا الغربية بإطلاقهم باتجاه حدودها، او وكما حصل بأن يبتزهم بما تجاوز ستة مليارات يورو، وهو يستعمل الورقة أيضاً في حربه مع الدولة السورية، لكن الأوروبيين لم يعودوا قادرين على الدفع، وهؤلاء اللاجئون أصبحوا عبئاً عليه وعلى المواطن التركي وورقة انتخابية قوية بيد خصومه.

لم يعد بيد أردوغان إلا إعادتهم الى سورية بالاتفاق مع الدولة. فالمنطقة العازلة التي كان يعمل من أجلها في الشمال لا يريدها شركاؤه بالناتو بسبب تحالفهم مع الأكراد، ولا تريدها موسكو وطهران، فكان لا بدّ من العمل مع دمشق، وهذا ما طرحه جاويش أوغلو من استعداد بلاده لإدارة حوار بين الدولة السورية ومعارضيها الذين يتلقون التعليمات من أنقرة، وأنقرة هي القادرة على ضبطهم بالطرق الناعمة او الخشنة، في حين لن يجد الأكراد من خيار إلا العودة إلى أحضان الأمّ الحنون دمشق. مع ذلك يبقى أردوغان محيّراً في سلوكه، اذ يرى وزير خارجيته ان لا حلّ في سورية الا الحلّ السياسي، ويصرّح نائبه في حزب العدالة والتنمية انّ العلاقات بين بلاده ودمشق في تحسّن وعلى مستويات رفيعة، يقوم الطيران التركي بقصف قاعدة للجيش السوري قرب عين العرب فيوقع عشرات العسكريين شهداء.

إنه سباق بين أردوغان ومعارضيه، أيهم سينهي الإشكال الطويل مع سورية، لكن علينا أن ندرك انّ الثقة الوحيدة بأردوغان هي إنْ قام بتنفيذ ما تقدّم قبل الانتخابات، اذ انه في حال فوزه سيعود الى نظرية التمكين ويتملّص من وعوده والتزاماته لا لسورية فحسب وإنما لناخبيه أيضاانها متلازمة أردوغان.

*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى