من يحكم فرنسا؟ ماذا لو تساءلنا؟
} ميرنا لحود
فرنسا في وضع لا تُحسَد عليه، فهي مُقيّدة داخل مجموعتين. من جانب انخراطها في الاتحاد الأوروبي ومن جانبٍ آخرَ هي عضو في حلف الناتو. يُعرَّف عن الاتحاد بكتلة «سياسية اقتصادية» أما الناتو فيُقدم نفسَه ككتلة «سياسية عسكرية». وترتكز المؤسسات الدستورية الأوروبية على ركيزتين: الأولى، سلطة عليا تفوق سلطة الدول الأعضاء والثانية، سلطة تشاركية في ما بينهم. فيعكس ذلك محدودية هامش الحرية في السياسة الداخلية للبلدان. أما الناتو فهو مستند إلى عنصرين على ضوئهما يتخذ قراراته: «الدفاع الجماعي والأمن». ما يفضي بنذير شؤمٍ؛ يشير إلى أنَّ آلة الحرب التي يترأسها الناتو قد تدفع، لحجةٍ ما أو لذريعة معينة تحت عنوان تهديد من هنا وهناك، بتغذية صراعٍ أو إشعال فتنة حتماً قد تؤدي إلى حربٍ وتجرُّ الجميعَ معها كما هو الحال اليوم في أوكرانيا.
ديمقراطية شيطانية أوروبية:
في الشكل والمضمون تجانس هزلي
تُمارسُ عملية التصويت المباشر في الانتخابات الأوروبية فقط للبرلمان أيّ للنواب الأوروبيين. أما رئيس الاتحاد الأوروبي فيتمّ تعيينه وفق اقتراح المجلس الأوروبي المؤلف غالباً من رؤساء البلدان الأعضاء. يعني ذلك أنَّ رئيس الاتحاد الذي يقرّر مصير الكتلة الأوروبية وشعوبها هو غيرُ منتخبٍ ولم تختره شعوبُ الاتحاد.
على الصعيد الاقتصادي ومن باب المثل. تمتاز ألمانيا وحدها باقتصادٍ أفضل وأقوى من غيرها من الدول الأعضاء. ما يفضي إلى أنَّ كلمة الفصل تكون دائماً للذي يتمتع بقوة اقتصادية. بمعنى آخرَ ألمانيا توجه وتقرّر والآخرون يطبقون لأن لا حيلة لهم إلا الالتزام ودون نقاش لأنهم يتقاضون مساعدات في شتى المجالاتٍ. أما الضخ الإعلامي في ما يتعلق بعبارات من نوع «الثنائي الألماني ـ الفرنسي» أو «التوأم» وما شاكل فهي لتشويش العقول وجذب الرأي العام فقط.
خلاصة الأمر وبوضوح. على الصعيد الأوروبي، فرنسا لا تتمتع بأية سياسة غيرَ سياسةِ الاتحاد الضاغطة في أحسن الأحوال. ودُولياً ففرنسا بمثابة بيدق كمثيلاتها من البلدان التابعة. فهي تنفذ ما يقرّره الناتو ما دامت في كنفه لأنه الآمر والناهي أولاً وآخراً.
نظرة إلى السياسة الداخلية الفرنسية
إنَّ مجمــوعةً من المؤسســات الأميــركية الأطلسية تُدير السياسة الداخلــية الفرنسية حتى لو لم يظــهر ذلك بوضــوح للشعب الفرنسي. وكما بــات معروفــاً فــإنَ ســلطة الاتحــاد هي الســلطة العلــيا التي تتــفوّق على غيرها من سلطات البلدان الأعضاء داخلياً ويضاف عليها انخراطٌ مخفيٌ لقوة أميركية ظفــرت بالداخــل بطريقــة ناعمة وذلك بفضــل مساعدة الرئيس الفرنسي، إيمانويــل ماكرون. كلّ الفضائح التي ظهــرت في الصحف ولو بطريقة خجولة لملفات تؤكد ذلــك ببراهينَ دامغــةٍ. أظهرت الملفات بأنَّ فرنسا تُدار من قوة خارجية تُلَخص بعــبارة «سي. أي. أي.»، في النهاية تمتلك تلك المؤسسة الاستــخبارية البراقــة الجذابــة وجـهين: وجهاً يُسمى الاتحاد الأوروبي ووجهاً آخرَ يُدعى الناتو.
لقد عكس منهج إدارة الملفات ضلوع ماكرون وبشكل جاد ونشط وبوسائلَ ضبابيةٍ ملتبسة وضاغطة، مشبعة بالاحتيال والتلاعب في كافة القضايا التي تناولها. كل ذلك على حساب المصلحة الفرنسية ساعياً بشتى الطرق إلى إعطاء الأفضلية للأميركي دون لُبس أو تردّدٍ. لقد نجحت الشركة «الإسرائيلية» «بيغاسوس» المتخصصة بتطبيقات التجسس في اختراق هواتف المسؤولين الفرنسيين (لوموند 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021) ويقال من بينهم هاتف الرئيس الفرنسي؟ علامات استفهام كثيرة تطرح في هذا الإطار. لكن الصمت ما زال حتى اليوم سيد الموقف. «فضيحة ماكينزي غيت» (شركة استشارات إدارية أميركية) متورطة بعدد من الفضائح حول العالم تُدير السياسة الداخلية الفرنسية. فضيحة «روتشيلد غيت» يُحدث هذا الملف دائماً ودوماً على مواقع التواصل الاجتماعي ضجةً وتوجيه أسئلة كثيرة حول الملايين وممتلكات ماكرون. رائحة من الفساد تفوح من هذا الملف ويتخلله مزيج من الاحتيال والتلاعب القذر للاأخلاقي. فضيحة «أوبر غيت» Uber شركة لتأمين المواصلات كالتاكسي والتاكسي الخاص. لقد لعب ماكرون دوراً محــورياً في هذا الملف لحساب الأميركي وقتــما كان وزيــراً للاقتصاد. ضــغط بقوة غيرَ مفهومة على حكــومة الرئــيس الأسبق هولاند Hollande (يونيو/ حزيران 2022) وقبلت بشــروط الشركة التي فرضت أسعارها على حساب أصحاب الأجر الذيــن يعانون أصلاً، ما أدى إلى خلل في سوق النقل الخاص. فضيحة بفايزر « Pfizerغيت» و ألستوم Alstom لم يدّخر ماكرون فرصة إلا ويعــمل لمنفــعة الأميــركي على حساب مصــلحة بلده. منذ أنْ كان ماكرون موظــفاً لدى روتشــيلد لقد وقع اختيار جاك آتالي عليه. فهو رجلٌ مخضرمٌ ملمّ بعمليات الضغط وصناعة الاستراتيجيات واللوبي والتلاعب، فهو آتٍ من عائلة «النظام العالمي الجديد».
في نهاية المطاف، وبفضل ماكرون، لقد وضعت وكالة الاستخبارات الأميركية سي. أي. آي. في الداخل الفرنسي يدها على قطاع الصحة، وعلى مفاتيح الاقتصاد وعلى سوق النقل الخاص أو الأجرة وعلى الأمن طالما من الممكن جداً التجسس على أي شخصٍ ما دون أن يحدثَ ذلك أية ضجة أو يتسبّب بأيّ إزعاج ما. لم يتلفظ جنرالٌ واحد بكلمة ولم يرفع أحدٌ صوته حيال هذه المسألة.
في الآونة الأخيرة وفي مجال الدفاع، لقد طلبت ألمانيا من فرنسا بتزويدها بخبرتها ومعرفتها وتقنيتها العالية. هل سترضخ فرنسا؟ أما في ما يتعلق بآلة الحرب المتخصصة في صناعة الحروب المسماة بالناتو فهي من تقرر والآخرون يقفون في صف المعركة متأهبين للانخراط في حلبة الميدان المعدة لهم.
ملاحظة صغيرة قد تزيد من قيمة التقييم للإدارة الداخلية الفرنسية. إن شركة ماكينزي الأميركية فرع فرنسا يُديرها فيكتور فابيوس ابن لوران فابيوس المتورط بفضيحة «الدم الملوث» والتي أدّت إلى قتل مئاتٍ وإصابة الآلاف الأشخاص، فقد برر لوران فابيوس، رئيس وزراء فرنسوا ميتران آنذاك، تورّطه بهذا الملف قائلاً بأنه» مسؤولٌ لكنه غيرُ مذنبٍ».
كتبت الصحيفة الأسبوعية Le Canard Enchaîné بتاريخ 3 آب/ أغسطس 2022 عن الشركات الاستشارية الغالبية أميركياً «بعد أربعة أشهرٍ من بحث وتدقيق وجمع 7300 وثيقة أعلنت لجنة تحقيق في مجلس الشيوخ، أنّ كلفة الشركات الاستشارية المتزايدة بكثرة في الوزارات، وصلت لعام 2021 إلى 894 مليون يورو فقط كلفة الاستشارات ولنتيجة في غالبيتها شبيهة بدخان.
الصحافة: طاعة وولاء للسيد الأميركي
تمتلك العائلات الأوليغارشية كافة الصحافة الفرنسية، وهي في خدمة السيد المكون من وكالة «سي.أي.آي: والنظام العالمي الجديد. استثماراتهم دائماً في خدمة الأسواق العالمية الواسعة النطاق. هم للعولمة روحاً وقلباً. وفي الواقع فهؤلاء أصحاب القرار السياسي الاقتصادي لأنّ أموالهم تتكاثر بوفرة عالية. والسلطة للمال!
خريطة للإعلام الفرنسي. صحيفة «Le Canard Enchaîné « هي الوحيدة المستقلة. من بين «شركات» المرئي والمسموع والمكتوب.
مشهدٌ مصغر عما هو عالمي
جرت العادة في فرنسا وبالسرّ أنْ يتمّ اختيار الأشخاص مثل صحافيين ومسؤولين سياسيين واقتصاديين على يد مجموعات وجمعيات سريةٍ مثل Bilderberg, Young Leaders أو أيضاً Le Forum de Davos منتدى دافوس للاقتصاد. هدف تلك الجمعيات والمجموعات رصدُ الأشخاص وانتقاؤهم وإعدادهم وتوجيههم كي يكونوا معدّين ومحضرين طبعاً وفق نمط مدروس ومحدد. وتعمل هذه الدوائر مثل «دائرة «العهد» في الخفاء وتدرب العناصر الأكثر طوعاً وطاعة للسيد الأميركي. لقد أظهر ماكرون منذ بدايته مهارة في تلبية الأوامر لا بل أكثر من ذلك فهو مفرط التصرف والتطبيق في كلّ ما يطلب منه بمعنى أنه يذهب إلى أبعد مما هو مطلوبٌ.
إنَّ فرنسا اليوم بلد محرومٌ من حريته، واستقلاليته، وثقافته، وقِيَمه، فهو في بحث عن جذوره. يصعب على شبيبته إعطاؤه قيمته الحقيقية ما أنْ أصبحت الثقافة السائدة ثقافة الغدر والتلاعب والضغط للتوصل إلى المبتغى. هل تستطيع فرنسا إنتاج ديغول جديدٍ؟ من يدري فـ ديغول قد يخفي ديغولاً آخرَ؟ التفاؤل يعطي الحياة. وليتحقق الأمل لا بدّ من العمل والكدّ.