الحروب الطاحنة… لا دماء ولا بارود
جابر جابر
في مفهوم الحروب المعتاد، يفتك البارود بالبنيان، بالمادة، ويحيل الأرض رماداً، ببناها التحتية، ومؤسساتها وزرعها وما إلى ذلك. كما أنه يزهق الكثير من الأرواح، فتسقط أجساد كثيرة. غير أنّ المفارقة تكمن في روح المجتمع، التي تشتدّ، وتثبت، وتقاوم وتنهض من تحت الركام لتعيد البنيان.
إنّ ما نشهده اليوم مختلف تماماً، رغم وجود أسلحة فتاكة ومتطورة من نووي وغيره. ما نشهده اليوم حرباً تستعر في برودتها ناراً كالسمّ، قد لا تقتل أجساداً، وتهدم بنياناً، بل تستقلّ قطار المادة، لتستهدف الروح، روح المجتمع، وهنا يكمن الموت الإنهزامي البطيء، كالخدر.
أنظر إلى الكيان اللبناني اليوم، والذي هو في قلب الأمة، ويعيش نفس ظروفها ومعاناتها. تقهقر في الاقتصاد، من صناعة وتجارة وزراعة وسياحة وخدمات، انهيار قيمة العملة، بطالة، جوع، بنى تحتية مهترئة، مشتقات نفطية بأسعار لاهبة، مواد مفقودة من أدوية وأغذية، خدمات مهترئة من علاج وصحة وضمان واستشفاء، غياب الأمن الاجتماعي والسياسي، غياب التشريع والقانون عن الكثير من القضايا المحقة، الاحتكار، الظلم، التطرف، التمذهب، السرقة، المحسوبيات، الفساد المستشري، العقوبات، وغيرها وغيرها من الأثقال التي يرزح تحتها مجتمع بأكمله (إلا من قلّة قليلة) تغيب معها الأفق ويشتدّ الخناق.
كلّ هذا الفساد، الذي استلزم سنوات من التحضير ليستشري، والذي ضلع في فرضه ونشره أكثر من عميل وفاسد داخلي، وجهات عدوة ذات عقل إجرامي ثاقب، خططت وحضّرت ووظفت ونفذّت وبدأت بالحصاد، فهل تحصد البيدر كاملاً؟
لا شكّ بأنّ هذا التدمير الممنهج بالفساد، والإحباط الممنهج كذلك، الذي كرّس مجتمعاً عاجزاً عن التغيير، مجتمعاً صودرت أحلامه، وسُيّست حركاته وثوراته، وحتى انتُزِعَ حقّه في التعبير السليم في الانتخابات وغيرها. مجتمع يعجز حتى عن الاعتراض على سعر الرغيف، في وقت ينخره الجوع دون ان يحدث فيك سلوكاً بالانتفاض والثورة على المفاسد. والخطر في هذا الأمر، هو التسويق الممنهج للأفكار المنتهكة للسيادة عبر وسائل متعدّدة، تضع الحلّ في الاستسلام والتسليم ونقض المبادئ، فتنادي للعدو أن «لقد قُتِلنا، ماذا لديك لنسد جوعنا، أعطنا، وخذ الأرض».
كل ذلك يحصل في وقت يُقَدَّمُ فيه المقاوم والمدافع عن أرضه والثابت على فكره ومبادئه، في قالب نمطي يحمِّله كلّ الخراب ويجعل الخلاص في براثن القاتل.
ومن هنا نجد أنّ المجتمعات التي تصاب في روحها، مبادئها، حقها، خيرها، جمالها، حريّتها، نطامها، أخلاقها… إنما هي أمم تخور قوّتها حدّ الهزال وتصبح سهلة المضغ والتشكيل، فتموت دون الحاجة إلى قتلها…