الصين… وحدود مرحلة اللاحدود!
فاديا مطر
مع بدء سلسلة تقديم التنازلات الدولية لروسيا في أوكرانيا، والتي تحاول فيها واشنطن التوصل إلى مرحلة حفظ ماء الوجه، تنبثق تلميحات أميركية شبيهة بتلميح وكيل وزارة الدفاع الأميركية للشؤون السياسية كولين إتش في 14 حزيران/ يونيو المنصرم لتعزيز البقاء السياسي في مقابل الركود والهزيمة التي يتسابق كلاهما الى دهاليز البيت الأبيض قبيل الانتخابات النصفية الأميركية المرتقبة في تشرين الثاني المقبل.
لكن الأزمة الأميركية الاستراتيجية تنحدر نحو بكين بشكل متصاعد على وقع خُطى حزب الحرب الأميركي الذي يتحضّر لعالم متعدد الأقطاب، وبدء الخسارات الكبيرة في أهمّ عامل جيواقتصادي كانت تعمل عليه مجموعته في الدول السبع، فالكتلة الموازية لمجموعة الدول السبع والتي تضمّ ثماني دول وتشكل فيها الصين وروسيا الحجم الأكبر في مقابل اقتصادات عالمية كانت تحكمها واشنطن بقبضة العصا والجزرة، وهو ما جعل ارتباط الكباش مع الصين كقوة عالمية عسكرية واقتصادية من أولويات الولايات المتحدة وحلف الناتو في فترة حكم «الديمقراطيين» بعد العجز عن كسر روسيا في أوكرانيا وشرق المتوسط، حيث روّجت سابقاً واشنطن لفكرة الصدام العسكري مع الصين في تايبيه بخطوة إعلان الاستقلال بعد تشجيع الحزب الديموقراطي التقدمي الحاكم على النحو بهذا الاتجاه، مما استدعى ردّ فعل صيني لترسيم الحدود الحمراء نحو تايوان وواشنطن على حدّ سواء.
ومع فقدان أركان كبيرة في قيادات الحزب الحاكم التايواني لمصداقية الضمانات الأميركية، بدأ التعاطي مع احتمال الحرب بالوكالة على أنه ضرب من الجنون، فالصين التي استندت الى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار بإعلانها أنّ مياه مضيق تايوان تقع في داخل المياه الإقليمية الصينية تكون بذلك أعطت إشارات من دون إشعارات مسبقة نحو تايوان والولايات المتحدة بشكل يتصاعد معه احتمال الوصول الى حدّ اللاحدود، وكما كانت الخشية من ضمّ أوكرانيا الى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو من الخطوط الروسية الحمراء، فإنّ دعم مكانة الحرب في تايوان تتشابه مع نفس النتيجة الاحتمالية لأوكرانيا فيما إذا أقدمت تايبيه على الاستقلال المنفرد، وهنا تصرّ واشنطن على اتباع نفس النهج السياسي والعسكري في أوكرانيا مع تايوان التي أصبحت مسلوخة القرار من الطرفين، ولعلّ ما وصلت إليه العلاقات الصينية ـ الروسية من تقدّم في عام واحد هو أحد أهمّ المؤشرات الحادة نحو الولايات المتحدة بعد العملية الروسية في أوكرانيا، وبذلك تكون العلاقة الصينية ـ الأميركية على محكّ التجاذب الى منطقة اللاحدود، فالصراع في مراحله الحالية هو على نار هادئة نسبياً وقدرة التحكم في الشدّ نحو نزاع مسلح في هذه الظروف قد تكون بلا رجعة نحو الهدوء، بخلاف ما يفعل الأوروبيون مع روسيا تحضيراً لقمة العشرين في 16 تشرين الثاني المقبل، وهنا ستكون في مواجهة الولايات المتحدة جبهتان حادتان قد تغيّر تراتبية واشنطن على المدى القريب بشكل كبير، فالفرص السياسية تجاه بكين تتضاءل وتتنامى في مقابلها الفرص القابضة على الزناد بعد إعلان واشنطن في عدة مواقع بأنّ العدو الأكبر على مصالحها هو الصين، فما احتماليات نفاد فرص التهدئة في العلاقات بين بكين وواشنطن؟
مع انكشاف المواجهة ما بين الناتو وكلّ من الصين وروسيا تبدأ فعلياً إغلاقات كبرى للفرص السياسية مع دعوة واشنطن كلّ من قادة كوريا الجنوبية واليابان واستراليا كضيوف في قمة الناتو في مدريد، وهو مؤشر كبير على إتساع رقعة الصراع فيما إذا قرّر الناتو في قمته تبني الاستراتيجية البديلة عن استراتيجية العام 2010 واعتبار الصين تحدياً لمصالح وأمن وقيم دول الحلف وتمثيل روسيا كتهديد أمني استراتيجي في ذات السياق، فهنا يكون الضغط العسكري هو السبّاق لإغلاق الأبواب السياسية وحتى الاقتصادية على مستوى العالم، فما فرص ما تعلنه واشنطن من «وحدة عالمية» لمواجهة العدوين؟ خصوصاً بعد إعلان الصين التعاون مع بنك التسويات الدولية وإنشاء نظام احتياطي بـ اليوان كانت تساعده كلّ من أندونيسيا وسنغافورة وماليزيا وهونغ كونغ وتشيلي؟
فهذا الإجراء يهدف بمجمله لتهميش الدولار على مستوى منطقة شرق آسيا، مما يفرض على الناتو فضح قواعد علاقاته الدولية التي جعلت منه خصماً متغيّر العلاقات بعد إدراج الصين في استراتيجيته للمرة الأولى، فلا على الواقع العسكري يستطيع الناتو تخيّل نتيجة في صالحه، ولا على الواقع الاقتصادي سيتمّ كسر منظمة «بريكس» في مقابل تعاظم مجموعة الدول السبع، ولا على المستوى السياسي ستكون هناك تجمعات دولية ملتزمة للالتفاف حول واشنطن كقطب أوحد بعد روسيا في أوكرانيا بعد 24/ شباط الماضي، فلا ممرّ سوفالكي ستستطيع واشنطن منعه من منح قبضة روسيا في السيطرة على بحر البلطيق والبحر الأسود، ولا معبر تايوان المائي ستستطيع واشنطن تخليصه من قبضة سيطرة الصين على أهمّ معبر مائي في شرق آسيا، فيما تتنقل الولايات المتحدة بمشهد الحروب المتنقلة وإشعال الاضطرابات الدولية التي لا تفيد المعسكر الغربي في كسر بناء نظام عالمي جديد، فبعد اتضاح زيادة النفوذ الأميركي في محيط تايوان بالتحركات نحو تايبيه والفلبين وجزر سليمان، قد أدّى الى وضع الخيار العسكري اللامحدود على الطاولات الصينية العسكرية خصوصاً بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي مؤخراً لتايوان والتي اعتبرتها بكين أنها زيارة تعبّر عن عدم قدرة واشنطن على التحكم بالسياسة الخارجية الأميركية من نوافذ البيت الأبيض بعد إعلان الأخير أنه لم يشارك في إعدادات الزيارة، فالقراءات الصينية اقتصرت على مناورات عسكرية بحرية في المحيط التايواني وحظر الاستيرادات كعامل اقتصادي حتى الآن، لكن مؤشرات واشنطن تبنئ بكين بوجود معضلات جيوسياسية إقليمية ودولية غير قابلة للحلّ قريباً من نافذة تايبيه وربما من نوافذ أخرى ستبقيها واشنطن مفتوحة في الشرق الآسيوي وتدخل منها الى مرحلة «اللاحدود».