دمشق وأنقرة… مصالحة وفق محددات استراتيجية
د. حسن مرهج
للوهلة الأولى يبدو الحديث عن عودة العلاقات السورية ـ التركية إلى سابق عهدها، وكأنما الأمر مرتبط بحالة من التفاهمات السياسية، والتي تبدو أنها ضرورية لكلّ من دمشق وأنقرة، نتيجة المناخ الإقليمي والدولي المرتبط بشكل أو بآخر، بتداعيات الحرب على سورية، وضرورة العمل على إيجاد الحلول السياسية، لمنع انجرار الإقليم برمّته، إلى حرب أوسع وبعناوين متعدّدة، لكن ضمن ذلك، فإنّ الحديث عن عودة العلاقات السورية ـ التركية، مرتبط بشكل مباشر، بنتائج الحرب على سورية، وما أفرزته من حالة التشتت الإقليمي، فضلاً عن أنّ انتصار الدولة السورية، بات أمراً واقعاً لا يمكن لأيّ قوة فاعلة ومؤثرة في الشأن السوري، من إنكاره أو تجاهل نتائجه، وبالتالي، فإنّ عودة العلاقات بين دمشق وانقرة، مرتبطة في العمق بالحال الذي وصلت إليه تركيا، جراء سياساتها في سورية والاقليم، بالإضافة إلى الرغبات التركية بالبحث عن مخارج سياسية من الأزمة السورية، والأهمّ ثمة رغبات تركية بوضع حدّ لطبيعة الهواجس الأمنية التركية، المرتبط بالكرد خصوصاً، إذ لا مخرج من ذلك، إلا بالتقارب مع دمشق، وعودة العلاقات بين البلدين، إلى سابق عهدها.
في السياق ذاته، وانطلاقاً من قاعدة أن لا عدو دائماً في السياسة. ربطاً بذلك، وفي الأيام الأخيرة، أطلق مسؤولون أتراك وعلى رأسهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سلسلة تصريحات، عبّروا من خلالها عن رغبة معلنة لتقدّم مسار التطبيع مع سورية، وسط صمت سوري، وتمسّك بالشروط المعلنة لاستعادة العلاقات. ومن بين السيناريوات المتوقع تشكيلها كبوابة للحلّ، توسع دائرة المصالحات بما يتيح عودة أكبر عدد من اللاجئين إلى بلادهم، وإدخال تعديلات على اتفاقية أضنة على نحوٍ يسمح بخروج القوّات التركية تدريجاً، وإبعاد ما تدْعوه أنقرة «الخطر الكردي» عن الحدود.
التصريحات التي أطلقها أردوغان تنصب في إطار تيقن الأخير بضرورة التواصل مع دمشق، لإيجاد حلول للمشكلات العالقة على الشريط الحدودي، بالإضافة لأهمية معالجة «أزمة اللاجئين» قبيل الانتخابات التركية. وفي الوقت الذي ترحب فيه سورية بإعادة العلاقات مع كافة الدول، بما فيها من كانت طرفاً في الحرب، تنظر بعين الحذر في علاقتها مع تركيا، لما حاولته الأخيرة من إحداث تغييرات على شكل السلطة في سورية، لضمان مشاركة الإخوان المسلمين في السلطة، مقابل أن تكفّ يدها عن دعم «المعارضة» الأمر الذي رفضته سورية، كما أنّ موقف الأخيرة المعلن تجاه عودة العلاقات بين البلدين يتمثل في وقف تركيا دعم الإرهاب، وإخراج قواتها من الأراضي السورية.
ويضاف إلى ما سبق، إحدى أهمّ نقاط الخلاف بين البلدين، هي عمليات التتريك في المناطق التي تسيطر عليها أنقرة في الشمال السوري، وعمليات التغيير الديموغرافي، ومشاريع تشييد مدن صغيرة لتشكيل حزام بشري قرب الحدود التركية، فضلاً عن ملف التشكيلات العسكرية التي تدعمها تركيا، وملف إدلب، كذلك الملف الكردي، فتركيا ترى في الأكراد أعداء يجب القضاء عليهم، بينما تعتبر سورية المشكلة في مشروعهم الانفصالي المدعوم أميركياً.
وترافق التصريحات التركية، محاولات امتصاص للاحتكاكات التي تجري بين «قسد» والجيش التركي، وما يتخلله من استهداف لمواقع تابعة للجيش السوري، الأمر الذي يبقي احتمالية الوصول إلى تفاهمات بين البلدين مطروحاً لكن مساره طويل، لا سيما في ظلّ رغبة تركيا الواضحة في العودة إلى سياسة «صفر مشاكل»، وما يعزز ذلك تواصل تركيا تعزيز مسار التطبيع مع «إسرائيل» من جهة أخرى، الأمر الذي اعتبره مراقبون ينصب في سياق التحوّلات التي بدأت تطرأ على سياسات بلادهم الخارجية منذ فترة.
حقيقة الأمر، ثمة منعطف استراتيجي يرتقي لأن يكون نقطة ارتكازاً في سياسة تركيا تجاه محاولات تقاربها مع المحيط العربي بأنه يستهدف استعادة استراتيجية «صفر مشاكل» مع محيطه العربي. فبعد سنوات من العزلة الإقليمية على خلفية تدخلات وملفات عاصفة، تخطو تركيا على طريق العودة نحو سياسة أعلنها، منذ العام 2009، رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داوود أوغلو، تحت مسمّى «صفر مشاكل»، أيّ تصفير جميع الإشكالات مع الجوار والمحيط.
استراتيجية تطرح نفسها كجسر حتمي تجتهد أنقرة عبره في محاولة للقفز على الخلافات التي تسبّبت فيها سياساتها بالشرق الأوسط على مدار أكثر من عقد من الزمن، انقلبت خلاله سياستها إلى التدخل المباشر في شؤون المنطقة والتوجه التوسعي عبر التموضع عسكرياً في سورية وليبيا، وتوسيع وجودها العسكري القائم في شمالي العراق، فضلاً عن استعداء القوى الإقليمية الكبرى.
لكن ضمن ما سبق، فإنّ انتصار سورية في الحرب التي شُنت عليها، فرض على الجميع مقاربات مختلفة، واليوم يبدو واضحاً أنّ القيادة السورية، تحصد ثمار صبرها الاستراتيجي في السياق السياسي، في انتظار قطف الثمار الاقتصادية لتلك التحولات بعناوينها الاستراتيجية.