هوّة سحيقة لا بدّ من ردمها…
أنطون سلوان
منذ السابع عشر من تشرين الأول 2019 ولبنان يمرّ بأزمات متتالية على درجات عالية من الخطورة مشكّلة تهديداً وجودياً للكيان الذي مرّت على تأسيسه سنتان بعد المئة.
مما لا شك فيه أنّ النظام الطائفي الذي أسّس عليه الكيان اللبناني كان على درجة من الهشاشة منعته من أن يكون يوماً قادراً على تحقيق حالة طويلة الأمد من الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والأمني مما يتطلب إعادة نظر شاملة بصيغة هذا النظام وخلق نظام جديد، نظام لا طائفي، لا مذهبي، نظام لا تمنح فيه الطوائف حماية لفاسد أو لمفسد أو لسارق أو لعميل، نظام تضمحلّ فيه الـ «أنا» في سبيل الـ «نحن،» نظام يعمل لتعزيز القدرات الإنتاجية للكيان وصولاً لتحقيق الاكتفاء الذاتي الذي قد يحتاج حتماً الى انفتاح وتعاون على الصعيد المشرقي.
والى أن يتحقق هذا التغيير المنشود، من الضروري الأخذ بعين الاعتبار الهوة السحيقة التي تفصل رجال السياسة في الكيان اللبناني والمواطنين الذين يتوزّعون بين كافة مدن وبلدات وقرى الكيان ويعملون في مؤسّساته العامة والخاصة وفي حقوله وسهوله. هذه الهوة التي أينما وجدت تسبّبت بكوارث اجتماعية والتاريخ مليء بالعبر والدروس التي تحاكي هذا الواقع المأساوي. فقصة الملكة ماري أنطوانيت التي أبلغت بفقدان الخبز في الأفران الفرنسية وعدم توفره للمواطنين واقتراحها للمواطنين بأن يستبدلوا خبزهم «بالبسكويت» وما تبع هذه الحادثة من ثورة وانتفاضة شعبية، قصة يشكك الكثير من المؤرّخين بصحتها ولكن ما لا يمكن التشكيك فيه هو العبرة من خلف القصة ألا وهي أنّ أيّ مسؤول، صاحب قرار سياسي، يجب أن يكون على إدراك تامّ لواقع المواطنين وأوجاعهم وما يعانونه من مصاعب على الصعد كافة لكي يستطيع اتخاذ قرارات مناسبة لمعالجة المصائب التي يعانيها المواطن ولكي تشكل هذه القرارات مخارج للمعضلات التي يتخبّط بها الوطن والمواطن. ولكن عندما يعيش المسؤول في برج عاجي، يفصله عن المواطن حواجز وفواصل، ويحجب رؤيته له زجاج داكن ونظارات شمسية، تمنعه أن يرى ما يعانيه المواطن، فإنّ القرارات السياسية ستزيد الأزمات التي يعاني منها الوطن والمواطن وستعمّق الهوة التي تفصل بين المسؤول والمواطن.
إنّ القرارات «الإنقاذية» التي اتخذت على مدى العاميين الماضيين من قبل السلطات التشريعية والتنفيذية تدلّ وبشكل واضح على أنّ قصة ماري أنطوانيت «والبسكويت» تتكرّر مع كلّ قرار. فالمواطن الذي سرقت ودائعه في المصارف وبات غير قادر على التصرف بأمواله التي هي حقه ونتيجة عمل طويل ودؤوب، والموظف الذي يتقاضى راتباً بالليرة اللبنانية انخفضت قيمته عشرات المرات، والمزارع الذي ارتفعت كلفة إنتاجه أضعاف الأضعاف عاجزون عن مجاراة القرارات الإنقاذية التي تصدر بشكل متواصل. فكيف لهؤلاء المواطنين المنكوبين أن يتأقلموا مع هذه القرارات غير المدروسة، كيف لهم أن يتأقلموا مع أسعار المحروقات التي حلّقت عالياً، وثمن الأدوية التي ارتفعت بشكل جنوني، والخبز الذي بات صعب المنال، ومعظم السلع الغذائية التي لم تعد بمتناول المواطن العاديّ.
الآتي أعظم مع إقرار سعر صرف الدولار الجمركي الجديد، وتكلفة التأمين والطبابة والاستشفاء العالية، التربية والتعليم التي ستصبح تدريجياً صعبة المنال على الكثير من شرائح المجتمع.
من المؤشرات الخطيرة جداً التي تجلت في علاقة المواطنين مع المصارف، التي يملك معظمها أهل السياسة، أنّ حق المواطن ضائع ومغيّب الى أن يدعمه بقوة السلاح، عندها فقط يتمّ الاعتراف بحقه. فإذا كان للمواطن من حقّ في ماله المصرفي فليتمّ الاعتراف بهذا الحق وليُعطى حقه كاملاً دون الحاجة للجوئه الى القوة وتحوّله الى مجرم بريء مظلوم جرمه مبرّر فعلياً بالحق.
انّ استمرار وجود هذه الهوة تتحمّل مسؤوليته جهتان اثنتان، الجهة الأولى هي حضرات المسؤولين السياسيين العاجزين عن أن يضعوا أنفسهم مكان المواطنين ولو للحظات عند صياغتهم قرارات جديدة والذين يديرون ظهورهم لأنين المواطنين «الخافت». والجهة الثانية هي المواطن الذي يعبّر عن ألمه ووجعه بطريقة، أقلّ ما يُقال فيها إنها خجولة وباهتة ولا تتماشى مع حجم المأساة والجروح والآلام العظيمة التي يعانيها، وإذا ما استمرت هذه الهوة بالتوسع ستستمرّ القرارات الجائرة للمسؤولين وستستمرّ أوجاع وآلام المواطنين الى ما لا نهاية وستستمر معاناة الوطن وسيعجز عن الخروج من هذا النفق المظلم فاسحاً المجال لكلّ الأعداء والطامعين لاستغلال الوضع القائم وتحقيق أهداف عجزوا عن تحقيقها بقدراتهم العسكرية والتدميرية الهائلة على مدى عشرات السنين. ولأنّ الأمل دائماً موجود، فلتكن أحداث الماضي دروساً وعبراً يستوحى منها المسار الصحيح نحو مستقبل أفضل لهذا البلد المكلوم…