العراق مَن يقلب الطاولة ومَن يلعب على حافة الهاوية؟
ناصر قنديل
– عند الحديث عن حدث بحجم ما يجري في العراق ويشكل السيد مقتدى الصدر عنوانه، ثمة حقائق يجب تسجيلها قبل الدخول في نقاش الحدث منعاً لاعتبار النقاش إنكاراً لها، أو تجاهلاً لتأثيرها، من جهة، ومن جهة موازية تسهيلاً للبناء عليها حيث يمكن البناء. أولى هذه الحقائق أن السيد مقتدى الصدر جمع رصيداً معنوياً كبيراً من تاريخ والده السيد محمد صادق الصدر ووالد زوجته وعمه السيد محمد باقر الصدر، ولكونه الوريث الوحيد برابطة الدم للعائلة الواسعة النفوذ في الحياة العامة للعراق، الذي يتصدّى للمسؤولية القيادية في ممارسة السياسة، وثانية هذه الحقائق، أن الصدر كسب رصيداً مؤسسياً من تأسيس والده مؤسسات اجتماعية ترتبط بها نسبة كبيرة من العائلات الفقيرة في العراق، وتولى هو إدارتها مبكراً، وثالثة هذه الحقائق أن الصدر بنى رصيده الخاص من مواقفه التي تمايزت عن سائر القيادات الشيعية من الاحتلال الأميركي بصورة مبكرة ودعوته لمقاومة الاحتلال، بينما كان الآخرون يعتبرون الغزو الأميركي خلاص الضرورة للعراق من نظام الرئيس صدام حسين، وأتاح له ذلك كسب تأييد نخب وطنية متعدّدة على الصعيد الطائفي والمناطقي وتعاطف بعض الشرائح السياسية التي كانت توالي النظام السابق، وكانت معارك الفلوجة مع الاحتلال الأميركي مناسبة لتظهير هذه المكانة، ورابعة هذه الحقائق أن الصدر استطاع رغم ما يُتهم به من عشوائية إثبات قدرته على تنظيم شارع شديد الحيوية والتنظيم والطاعة، كما تظهر قدرته على استخدام الشارع، وعلى الفوز بعدد من المقاعد النيابية لمرشحيه بصورة تفوق كثيراً مجموع الأصوات التي يجمعها هؤلاء المرشحون مقارنة باللوائح المنافسة.
– خامسة هذه الحقائق فهي أن الصدر المسكون بجموح السعي للزعامة جعل من خلافه مع رئيس الحكومة الأسبق نور المالكي ووريث حزب الدعوة الذي يراه الصدر ميراثاً خالصاً لوالده وعمه، محركاً لمواقفه وسياساته، فابتعد عن العلاقة الطيبة التي جمعته بالقيادة الإيرانيّة تحت تأثير هذا الاعتبار، وانفتح على علاقات لا سقوف لها مع دول الخليج، وصولاً لتمثيل جناح سياسي شيعي لها بمواجهة إيران وقوى المقاومة. انطلاقاً من هذا الاعتبار، قبل ان تتحول الخصومة مع إيران، والصداقة مع الخليج، الى ثوابت بذاتها تحكم مواقفه وتتحكم بها، وصولاً الى تماهيه مع الثورة التشرينية التي قادها الأميركيون، والى تبني شارعه لهتافات عدائية لإيران تترجم هذا التماهي، وموقف مائع من الاحتلال الأميركي، موقف ملتبس من قوى المقاومة بوجه الاحتلال ومستقبل سلاحها، وصولاً لارتكابهم أخطاء قاتلة بمواقف معادية للحشد الشعبي، وتصرفات لا يقبل بها أي عراقي حر مثل إحراق صور الشهداء، وعلى رأسهم الشهيدان القائدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس.
– صحيح أنها ليست المرة الأولى التي يعلن فيها الصدر اعتزاله، وقد كرّر الاعتزال عدة مرات وتراجع عنه، وكان الاعتزال كما هذه المرة ورقة تفاوضية طلبا لدعوات التراجع عنه بمقابل ثمن سياسي يزيد من رصيده، لكن الوضع هذه المرة يختلف بكثير من العناصر، أهمها أن المرجع السيد كاظم الحائري، الذي كان يمثل الغطاء الديني للصدر، قد أعلن تخلّيه عن المرجعية الدينية، مرفقا هذا التخلي بنقد لاذع للصدر، وتصدّيه للقيادة، ودعا مؤيديه ومقلديه إلى اتباع قيادة الإمام علي الخامنئي، بغياب مرجعية تقليد بديلة يمكن للصدر، الذي لا يملك ما يؤهله لإعلان نفسه مرجعاً، دعوة مؤيديه لاتباعها، ما يعني فقدان الغطاء الديني الذي بدونه لا تكتمل عناصر المسؤولية القيادية لموقع يتحرك تحت العنوان الديني. وثاني هذه العناصر الجديدة هي أن الصدر يعتزل هذه المرة، في معركة أبعد من تسجيل النقاط، أقرب لمعركة كسر عظم، بمعادلة ربح كامل وخسارة كاملة، بهدف رمي قفاز المواجهة مع الشارع بوجه خصومه، وبوجه المحكمة الاتحادية طلباً لإصدارها قرار حل المجلس النيابي.
– مشكلة الصدر انه يفعل ذلك في ظرف عراقي وإقليمي ودولي استثنائي، ليس فيه مكان للعبة قلب الطاولة، ولا للعبة حافة الهاوية، في المنطقة ترقب وتريث عشية التوصل لتفاهمات دولية وإقليمية كبرى، ليس فيها مكان لخوض معارك كسر العظم التي يحاول الصدر جرّ حلفائه لخوضها بوجه إيران وحلفاء إيران، وحكام الخليج الذين ينتظر الصدر منهم الاستثمار على معركته لتصفية حساباتهم مع إيران، ودعوة الأميركيين لفعل ذلك، يدخلون حواراً مع إيران، اسوة بما يفعله الأميركيون، وليس في الداخل العراقي من يشارك الصدر الرغبة بمعركة كسر عظم مع إيران، ورغبة من يعتقد الصدر أنهم حلفاؤه في الداخل والخارج تقف عند حدود تسجيل نقاط على حلفاء إيران توخياً لتسوية بشروط أفضل، بينما يستشعرون أن الصدر يورطهم في معركة لا سقف لها، يخرج منها رابحاً وحيداً يفرض عليهم شروطه بعدها، ولعل طريقة تصرف رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي، الذي لا يحظى بدعم الإطار التنسيقي المستهدف الأول من حركة الصدر، خير تعبير عن خلاصة هذه المواقف الداخلية والخارجية التي لا ترغب بمجاراة الصدر في ما تعتقده معركة عبثية تتجاوز حدود الممكن والمسموح.
– في حديث مع أحد الساسة العراقيين المخضرمين، حول الأحداث الجارية، قال إن معركة الصدر اليوم تشبه معركة العماد ميشال عون عام 1990، عشية انطلاق مؤتمر مدريد وحرب الخليج، ومناخات التسوية السورية الأميركية يومها، ورفض عون لدعوات الحوار والانضمام للعملية الدستورية الناشئة عن اتفاق الطائف.